الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        أولا: مهارات التحصيل

        إن أي عمل يقوم به الفرد في حياته يقوم على قاعدة فكرية معينة لديه. وكلما كانت هـذه القاعدة جيدة وسليمة -بناء على التحصيل العلمي لها- أدى ذلك إلى عمل سليم، وتطبيق صحيح من قبل الفرد. ومن هـذا المنطلق فإن الفرد بحاجة مستمرة إلى تحصيل العلم الذي ينير له الطريق، وييسر له السبيل، ويهديه إلى أقوم السبل. فالتحصيل سمة ضرورية ومهمة لا يستطيع الفرد الاسـتغناء عنها. وعلى الرغم من تفاوت الأفراد في تحصيل العلم،

        كما يؤكد قوله تعالى: ( قل هـل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (الزمر:9) ،

        وقوله تعـالى: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) (المجادلة:11) ،

        وقوله تعالى: ( وفوق كل ذي علم عليم ) (يوسف:76) . [ ص: 70 ] وقوله تعالى: ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) (الإسراء:85) ،

        وقوله تعالى: ( وقل رب زدني علما ) (طه:114) ،

        إلا أن التحصيل من الصفات التي قد لا يشبع منها الفرد، وفي سنن الدارمي : " عن ابن عباس قال: «منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا» "



        [1] .

        وللتحصيل العلمي أهمية وفائدة كبيرة تعود على المتعلم، عاجلا وآجلا، كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله: «من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم»



        [2] . وهو السبيل المهم الذي يمكن العالم والمتعلم، على السواء، من القدرة على العطاء والإنتاج.. ولأن «فاقد الشيء لا يعطيه»، كما يقال، فإنه يظل ثمة حقيقة مهمة تطرح نفسها بإلحاح هـي: « لا علم بلا تحصيل». ولكي يتزود المتعلم من العلم الذي يتعلمه، فإن ثمة عددا من المهارات المهمة، تساعد على تنمية هـذا الجانب، من أهمها: مهارة القراءة، ومهارة الكتابة، ومهارة الحفظ، ومهارة الاستماع، ومهارة صياغة السؤال، ومهارة الحوار، ومهارة تنمية الثروة اللغوية، ومهارة البحث.

        أ- مهارة القراءة

        تعد مهارة القراءة من المهارات الأساسية التي تعتمد عليها جميع المهارات الأخرى، حيث جاء تأكيد هـذه المهارة بصورة مباشرة في كتاب [ ص: 71 ] الله عز وجل ، كما يقول تعالى: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) (العلق:1-5) .

        فهي -بهذا- مهارة أساسية مهمة لا يتعلم الطالب بدونها. والقراءة كما أنها تأتي على رأس الأنشطة التعليمية التي يمارسها المتعلم في التربية الإسلامية؛ فإنها أيضا ليست نموذجا واحدا من النشاط يقوم به المتعلم، ويحدث له التعليم كيفما كان هـذا النشاط. ولكنها نشاط جوهري وبين ثناياه لا بد أن يتقن المتعلم المهارات الضرورية لنجاحه.

        إن من أهم ما يساعد على نجاح مهارة القراءة أن يجد المتعلم معها المتعة والفائدة، بحيث يفيد من المادة المقروءة، ويتغلغل ما قرأه في أعماقه. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن القراءة ليست مجرد نشاط يؤديه المتعلم فحسب، ولكنها مهارة قبل أن تكون نشاطا تعليميا، وهي مهارة يجب أن تترك أثرها الإيجابي في المتعلم، فقد جاء ( عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في الفوق )



        [3] .

        ولقد بلغت مهارة القراءة منـزلة كبيرة لدى علماء المسلمين، [ ص: 72 ] يقول الشافعي : «حفظت الموطأ قبل أن آتي مالك بن أنس ، فلما أتيته قال لي: أطلب من يقرأ لك. فقلت: لا، عليك أن تسمع قراءتي، فإن أعجبتك قراءتي وإلا طلبت من يقرأ لي، فقال لي هـات، فلما قرأت أعجبته قراءتي فقرأت عليه»



        [4] ؛ «وذكر الإمام السيوطي أنه قرأ صحيح البخاري في خمسة أيام فقط»



        [5] ؛ و « الحافظ بن حجر العسقلاني قرأ صحيح مسلم في أربعة مجالس، كل مجلس نحو أربع ساعات، وقرأ المعجم الصغير للطبراني في جلسة واحدة بين الظهر والعصر، وفيه ما يربو على ألف حديث»



        [6] ؛ الأمر الذي يدلل على تفوق علماء المسلمين في مهارة القراءة، وهذا -بطبيعة الحال- يعزز مكانة القراءة، ويبرهن على أهميتها للمتعلم على وجه الخصوص.

        ومهارة القراءة من المهارات المفيدة للمتعلم؛ التي لا بد أن تنمو معه بشكل مستمر؛ لذلك فإنه لا بد من التنويع فيها، والتوسع، وعدم الاقتصار على مصادر معينة دون غيرها، حتى يقف المتعلم على طرق القراءة المختلفة؛ ( عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أقرأني جبريل على حرف، فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف )



        [7] . وفي هـذا الصدد يقول ابن الجوزي : «ينبغي للفقيه ألا يكون أجـنبيا عن باقي العـلوم، فإنه لا يكون فقيها، بل يأخذ من كل علم بحظ لم يتوفر على الفقه، فإنه عز الدنيا والآخرة»



        [8] . إن مهارة القراءة تحتاج من المتعلم اليوم [ ص: 73 ] أن يكون قارئا في كل مجال، يقرأ في مختلف المصادر، ويفيد منها، شريطة أن يكون هـذا المتعلم ملما بمهارات القراءة الناقدة؛ لأن من أهم مزايا القراءة الناجحة، أن تبعث لدى المتعلم روح الإطلاع الخارجي؛ بحيث تساعد هـذه القراءة على تخريج «المتعلم القادر على معايشة متطلبات عصـر التفـجر المعرفي بكل ما يشتمل عليه هـذا العصر»



        [9] .

        ومهارة القراءة في التربية الإسلامية تحتاج الإلمام السليم من قبل المتعلم، سواء في القرآن الكريم، أو الحديث الشريف؛ فلا بد «أن يتقن المتعلم تلاوة القرآن الكريم»



        [10] ، ولا بد «أن يقرأ المتعلم الأحاديث التي تعلمها قراءة سليمة»



        [11] ؛ وهذا كله لا يأتي إلا عندما يلم المتعلم بمهارة القراءة إلماما جيدا، وهذا لا يتم، ولا يبلغ المتعلم فيه مداه، إلا عند التركيز على هـذه المهارة.

        ومهارة القراءة في التربية الإسلامية لا تقف بالمتعلم عند حدود المستوى السطحي من القراءة، ولكنها تدفعه إلى القراءة الوظيفية ؛ ذلك أن القراءة التي أشار إليها القرآن الكريم «لم يكن يقصد بها قراءة ما هـو مكتوب فقط، بل نظر الإسلام إلى القراءة نظرة عموم وشمول، فهي تشمل كل ما يعرفه الإنسان ويلمسه ويسمعه، قراءة للمكتوب وقراءة لغير المكتوب، ما تقع عليه العين وتسمعه الأذن أو تحسه أية حاسة من حواس الإنسان، في النفس وفي السـماء والأرض وفي خلق الكـثير من حـولنا



        [12] . [ ص: 74 ]

        وفي ذلك يقول ابن كثير: «العلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي»



        [13] .

        ومهارة القراءة تحتاج إلى تدريب جيد حتى تنمو لدى المتعلم بشكل سليم؛ لذلك «لا بد من التمرين المنظم... على تعرف الكلمات عن طريق إشارات النص والسياق، وعن طريق تحليل الكلمة إلى أصواتها، وعن طريق استخدام القاموس»



        [14] .

        2- مهارة الكتابة

        تمثل الكتابة إحدى أهم المهارات الأساسية التي يجب أن يجيدها المتعلم بكفاءة وإتقان. وبما أن هـذه المهارة تمثل أهمية كبرى، فقد أكدها الإسلام، كما في كثير من آيات القرآن الكريم:

        ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) (الإسراء:14) ،

        وقولـه تعالى: ( فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ) (الصافات:157) ،

        و قول الحق تبارك وتعالى: ( ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ) (البقرة:282) ،

        والكتابة، كما هـي مهارة القراءة، ليست مجرد أي نشاط يقوم به المتعلم فحسب، وليس لمجرد ممارسته للكتابة يكون قد أتقن مهارة الكتابة على النحو السليم؛ ولكن الكتابة تحتاج من [ ص: 75 ] المتعلم أن يكون قادرا على توظـيفها على النحو السـليم؛ ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أكد ضرورة توفر المهارة الجيدة لدى المتعلم تجاه الكتابة، فقد روي ( عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما ، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: اكتب، فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق )



        [15] .

        وعندما يؤكد المصطفى صلى الله عليه وسلم أن المتعلم يجب أن يكون ماهرا عند استخدامه للكتابة، فإنما يؤكد ذلك من منطلق الوظيفة الكبيرة التي تؤديها الكتابة في المساعدة على ترسيخ ما يتعلمه المتعلم في ذهنه؛ فهي -بهذا- أساس مهم لكثير من عمليات التعلم الأخرى.. ( عن أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، أنه قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسمع من النبي صلى الله عليه وسلم الحـديث فيعجبه ولا يحفظـه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أسـمع منك الحـديث فيعجبني ولا أحفظه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استعن بيمينك، وأومأ بيده للخط )



        [16] .

        ومهارة الكتابة من المهارات التي تستوجب من المتعلم المداومة والاستمرار. فالمتعلم الجاد لا يستغن عن الكتابة في جميع مواقف التعلم. ولهذا أكد علماء المسلمين أهمية الكتابة، [ ص: 76 ] كما جاء عن الإمام الشافعي أنه قال: «حضور المجلس بلا نسخة ذل»



        [17] ، وكان الإمام الشافعي يرى أن الكتابة سبب مهم في تمكين المتعلم مما يتعلمه: «ومن كتب الحديث قويت حجته»



        [18] . وكان الإمام أبو حنيفة يحث المتعلم على أن يكون ماهرا في الكتابة، ولا يكتب كل ما يسمع، كما قال لتلمـيذه أبي يوسف : «ويحك يا يعقوب، لا تكتب كل ما تسمعه مني، فإني قد أرى الرأي اليوم فأتركه غدا، وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد»



        [19] . يضاف إلى كل ما سبق أن مهارة الكتابة تساعد على التوثيق الدقيق للعلم، كما قال أبو زرعة : «كان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يقولان: كل من لم يكتب العلم لا يؤمن عليه الغلط»



        [20] . وفضلا عن ذلك كله، فإن الكتابة تعتبر من أهم مهارات التحصيل التي لا يستغني عنها طالب العلم، مهما بلغ في مستواه العلمي، ومهما بلغت ذاكرته، وقوة حافظته، كما جاء " عن أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، أنه قال: «ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب » "



        [21] .

        إن كل ما سبق يدلل على أن المسلمين قد أبدعوا في مهارة الكتابة، باعتبارها إحدى مهارات التحصيل المهمة للمتعلم، [ ص: 77 ] يقول الخطيب البغدادي : «سمعت علي بن عبد الله اللغوي يحكي أن محمد بن جرير الطبري مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة»



        [22] . إن مهارة الكتابة تحتاج من المتعلم الممارسة المستمرة، كما تحتاج منه أن يفيد مما يكتب، وأن يتعود على توظيف ما يكتبه، ومن هـذا المنطلق فإن الكتابة لا يجب أن تكون نشاطا محدودا يقوم به المتعلم في حدود ضيقة، وإنما لا بد أن تكون نشاطا مستمرا يقوم به المتعلم بشكل دائم، وفي مجالات متعددة.

        3- مهارة الحفظ

        يعد الحفظ من المهارات العظيمة عند المسلمين، التي لا يمكن إنكارها بأي حال من الأحوال. وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يحفظ العلم بالأرض التي تمسك الماء: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هـي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هـدى الله الذي أرسلت به )



        [23] . وقد ذهب الإمام ابن القيم ، رحمه الله، إلى أن أهل الصنف الأول، الذين أشار إليهم الحديث، هـم: «أهل الحفظ والفهم، الذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيه واستنبطوا وجوه الأحكام والحكم والفوائد منه، فهؤلاء بمنـزلة الأرض التي قبلت الماء، وهذا بمنـزلة الحفظ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهذا هـو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط، فإنه بمنـزلة إنبات الكلأ والعشب بالماء، فهذا مثل الحفاظ الفقهاء، أهل الرواية والدراية»



        [24] . [ ص: 78 ]

        والحفظ مهارة، وليس مجرد نشـاط آلي يقـوم به المتعلم دون وعي لما يحفظه.. ومما يساعد على نمو هـذه المهارة، اختيار المجال المناسب للمتعلم، فمن «أراد أن يكون حافظا نظر في فن واحد من العلم، ومن أراد أن يكون عالما أخذ من كل علم بنصيب»



        [25] ، والشافعي ، رحمه الله، يقول: «من طلب العلم فليدقق، وإلا ضاع دقيق العلم»



        [26] . كما تتطلب هـذه المهارة أيضا الجلوس إلى عالم، وعدم أخذ العلم من الكتب وحدها؛ لأن الكتب لا تعلم؛ وهذا ما يؤكده المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( ... إنما العلم بالتعلم )



        [27] . وفي هـذا السبيل يقول الإمام الشافعي رحمه الله: «من تفقه من الكتب ضيع الأحكام»



        [28] . وقبل ذلك سئل الإمام أبو حنيفة وقيل له: «في هـذا المسجد حلقة ينظرون في الفقه. قال: لهم رأس؟ قالوا: لا. قال: لا يفقه هـؤلاء أبدا»



        [29] .

        ومما تتطلبه مهارة الحفظ أيضا التنظيم الجيد للمادة المراد حفظها، كأن يبدأ المتعلم بحفظ الأهم، يقول الإمام النووي : «وينبغي أن يبدأ من دروسه على المشايخ، وفي الحفظ والتكرار والمطالعة بالأهم فالأهم. وأول ما يبتدئ به: حفظ القرآن العزيز، فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن»



        [30] ، [ ص: 79 ] ذلك أن العلم لا يمكن الإحاطة به جملة واحدة، ولكن التنظيم يساعد على استيعابه شيئا فشيئا، " قال ابن عباس ، رضي الله عنهما



        [31] : العلم كثـير، ولن تعيه قلوبكم، ولكن ابتغوا أحسنه، ألم تسمعوا قول الله تعالى:

        ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هـداهم الله وأولئك هـم أولو الألباب ) (الزمر:18 " .

        كما تقتضي مهارة الحفظ أيضا، أن يكون مقدار الحفظ متفقا مع قدرات المتعلم الذاتية، حتى يكون يسيرا عليه، قال الخطيب البغـدادي : «ولا يأخذ الطـالب نفسه بما لا يطيقه، بل يقتصر على اليسير الذي يضبطه»



        [32] . وقال أيضا: «ينبغي للمتعلم أن يشفق على نفسه من تحميلها فوق طاقتها، ويقتصر من التعليم على ما يبقى عليه حفظه، ويثبت في قلبه»



        [33] . ويقول الزرنوجي : «ينبغي للمتفقه أن يحفظ كتابا واحدا من كتب الفقه دائما؛ فييسر له بعد ذلك حفظ ما سمع من الفقه»



        [34] .

        وإضافة إلى كل ما سبق، فإن هـذه المهارة تحتاج أيضا إلى تشجيع المتعلم عليها من قبل المنهج؛ ومن ذلك ألا يكون محتوى المقرر الذي يتلقاه المتعلم [ ص: 80 ] مختصرا اختصارا مخلا، خاصة فيما يتعلق بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة؛ فلا بد «أن يتضمن المنهج قدرا من آيات القرآن والحديث للدراسة والبحث والحفظ»



        [35] .

        4- مهارة الاستماع

        للاستماع أهمية كبيرة في تحصيل المتعلم للعلم وإفادته منه. ذلك أن الاستماع يتيح الفرصة للمتعلم لتلقي العلم والإفادة من العلماء، ويوفر عليه الوقت. وقد أورد ابن عبد البر



        [36] أقوالا لبعض الحكماء تؤكد أهمية هـذه المهارة، من ذلك: «إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول»، " وقال الحسن بن علي لابنه: «يا بني إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثا وإن طال حتى يمسك» " .

        وتنبثق أهمية هـذ المهارة من أن الاستماع يأتي سابقا للعمليات والنشاطات العقلية التي يقوم بها المتعلم؛ لأن المتعلم قبل أن يقوم بأي ممارسة أو نشاط تعليمي لا بد أنه قد استمع لما يريد أن يتعلمه. ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: «للعلم ست مراتب: أولها حسن السؤال؛ الثانية حسن الإنصات؛ الثالثة حسن الفهم؛ الرابعة الحفظ؛ الخامسة التعليم؛ السادسة هـي ثمرته، وهي العمل به ومراعاة حدوده»



        [37] . فنجد أن الاستماع أو الإنصات يجيء سابقا للعمليات التعلمية الأخرى كالفهم، والحفظ، والتعليم، والعمل. [ ص: 81 ]

        ومهارة الاستماع تقتضي من المتعلم أن يمر بثلاث مراحل: مرحلة السماع، وهي المرحلة التي يكون عندها المتعلم في وضع استقبال الصوت، والمرحلة الثانية وهي مرحلة الاستماع، وهي المرحلة التي يعطي المتعلم عندها انتباها مقصودا لما يتعلمه، والمرحلة الثالثة هـي مرحلة الإنصات وهي مرحلة تركيز الانتباه من قبل المستمع



        [38] . ويعضـد ذلك ما ذهب إليه ابن القـيم ، رحمه الله، من أن: «السمع يراد به: إدراك الصوت، ويراد به: فهم المعنى، ويراد به: القبول والإجابة. والثلاثة في القرآن،

        فمن الأول قوله: ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) (المجادلة:1) ،

        وهذا أصرح ما يكون في إثبات صفة السمع...

        والثاني: سمع الفهم كقوله: ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) (الأنفال:23) أي لأفهمهم...

        والثالث سمع القبول والإجابة كقولـه تعالى: ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم ) (التوبة:47) ،

        أي قابلون مستجيبون»



        [39] .

        إن مهارة الاستماع تفيد أن عملية التعلم، من خلال الاستماع، تمر بثلاثة مستويات أدناها السماع، وأعلاها الإنصات. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم، يقول الحق تبارك وتعالى:

        ( إن السمع والبصر والفؤاد كل [ ص: 82 ] أولئك كان عنه مسئولا ) (الإسراء:36) وفيما يتعلق بمرحلتي الاستماع والإنصات يقول تعالى:

        ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) (الأعراف:204) .

        فإذا كانت مهارة الاستماع - كما تبين معنا - تمر وفق ثلاث مراحل أو مستويات، فإن هـذا يشير إلى أن المتعلم في أول مرحلة يكون في وضع السماع، وحتى يكون مستعدا للمرحلة التي تليها لا بد أن ينصت وأن يصغي لما يستمع إليه، كما يقول الإمام النووي : «وينبغي إذا سمع الشيخ يقول مسألة أو يحـكي حكاية وهو يحفظها أن يصـغي لها إصغاء من لم يحفظها»



        [40] . فالسماع يقتضي من المتعلم الصمت ليتمكن من استيعاب وفهم ما يسمعه. وفي هـذا الصدد يقول محمد بن عبد الوهاب الكوفي : «الصمت يجمع للرجل خصلتين: السلامة في دينه، والفهم عن صاحبه»



        [41] ، ذلك أن السـماع من قبل المتعلم يمكنه من الاستماع الجيد وتركيز الانتباه لما يسمعه، وهو الأمر الذي يشير إلى أن طالب العلم لمجرد السماع تكون له الفضيلة والأجر الكبير، كما ( جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من استمع إلى آية من كتاب الله تعالى كتب له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة )



        [42] . وتقتضي مهارة الاستماع أن يصل المتعلم إلى درجة الإنصات، لأنه بدون الإنصات لا يفيد من العلم ولا يحصل له التركيز المقصود. وقد كان الرسـول صلى الله عليه وسلم يستنصت الناس عندما يدعوهم إلى الله [ ص: 83 ] كما جاء ( عن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع: «استنصت الناس، فقال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض )



        [43] .

        صفوة القول: إن مهارة الاستماع تمر بمراحل متدرجة، ولكي يصل المتعلم إلى أفضل مستوى، فإن عليه مراعاة التدرج السليم للاستماع، حتى يفيد من هـذه المهارة في استخدام المهارات الأخرى.

        5 - مهارة صياغة السؤال

        السؤال مطلب ضروري لعملية التعلم، لذلك فإن من المهم أن تتوفر لدى المتعلم مهارة صياغته. ولأهمية السؤال فقد وجه الله تبارك وتعالى إليه،

        كما قال عز وجل : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (النحل:43) ،

        وقال تعالى: ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (الأنبياء:7) .

        ومما يدلل على أهمية السؤال، وضرورة أن يكون المتعـلم ماهرا في صياغته، أن ( الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «... إنما العلم بالتعلم )



        [44] .

        ولقد احتل السؤال أهمية كبيرة عند علماء المسلمين وتلاميذهم؛ الأمر الذي يوجب على المتعـلم المعاصر أن يتمـكن من مهارة صياغة السـؤال، مما يساعده على الغوص في أعماق العلم، والإفادة من الآخرين فيما ينقصه ويحتاج إليه من علم. ومما جاء في تأكيد أهمية السؤال، [ ص: 84 ] أن رجلا تكلم «في أبي حنيفة كلاما غير مرضي، فسمعه ابن سريح فنهره قائلا: مه يا هـذا، فإن ثلاثة أرباع العلم مسلمة له بالإجماع، والربع الرابع لا يسلمه لهم. قال: وكيف؟ قال: لأن العلم سؤال وجواب. وهو أول من وضع الأسئلة، فهذا نصف العلم، ثم أجاب عنها، فقال بعض: أصاب، وقال بعض: أخطأ، فإذا جعلنا صوابه بخطئه صار له نصف العلم الباقي، والربع الرابع ينازعهم فيه ولا يسلمه لهم»



        [45] .

        ومهارة صياغة السؤال تقتضي من المتعلم أن يبادر بالسؤال؛ لأن السؤال هـو مفتاح العلم. ومن هـذا المنطلق فإن حسن صياغته مهارة أساسية يجب أن يمتلكها المتعلم، كما يقول ابن القيم ، رحمه الله: «للعلم ست مراتب: أولها حسن السؤال؛ الثانية حسن الإنصات؛ الثالثة حسن الفهم؛ الرابعة الحفظ؛ الخامسة التعليم؛ السادسة هـي ثمرته، وهي العمل به ومراعاة حدوده»



        [46] . ومن أهم سمات مهارة صياغة السؤال، ما ذكره الخطيب البغدادي عندما قال: «وينبغي أن يوجز السائل في سؤاله، ويحرر كلامه، ويقلل ألفاظه، ويجمع معاني مسألته، فإن ذلك يدل على حسن معرفته»



        [47] ، الأمر الذي يشير إلى أن هـذه المهارة تتطلب من المتعلم أن يكون سؤاله موجزا، ذلك أن الإيجاز يؤدي إلى دقة السؤال وصدقه، وتقتضي أن يكون التعبير واضحا وجيدا حتى يكون مفهوما، كما تقتضي أن تكون ألفاظ السؤال محددة حتى لا تشمل أكثر من مطلوب؛ لأن تعدد الألفاظ تؤدي إلى تشتيت فكرة السؤال وعدم وضوح المطلوب منه، كما تقتضي أن يكون السؤال مركزا بحيث يبتعد عن الموضوعات الهامشية، أو التي لا تمثل أهمية للمتعلم. [ ص: 85 ]

        كما أن من مهارة صياغة السؤال جرأة المتعلم في الحق، والتلطف في السؤال، وحسن الخطاب، حتى يحصل له مقصوده ومطلوبه، وهذا ما ذكره النووي ، رحمه الله، عندما قال: «... ويتلطف في سؤاله، ويحسن خطابه، ولا يستحي من السؤال عما أشكل عليه، بل يستوضحه أكمل استيضاح، فمن رق وجهه رق علمه، ومن رق وجهه عند السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال»



        [48] . وتقتضي هـذه المهارة أيضا عدم سؤال المتعلم عن أمور تفوق مستواه، أو السؤال عن موضوعات لم يأذن المعلم فيها، حيث يشير الإمام الغزالي إلى أن السـؤال يكون فيما يأذن المعـلم في السـؤال عنه، أما السؤال فيما لم تبلغه مرتبة المتعلم فهذا مذموم



        [49] . إن مهارة صياغة السؤال تحتاج إلى دراية كبيرة من قبل المتعلم؛ لأن المتعلم إذا لم يتمكن من الصياغة الجيدة للسؤال لم يفد من سؤاله.

        6- مهارة الحوار

        للحوار أهمية كبيرة للعملية التعليمية عموما، وللمتعلم خصوصا؛ ذلك أن الحوار يساعد المتعلم على فهم ما يريد تعلمه، ويجعله يزداد شوقا إلى المادة العلمية وإلى معلمه. والحوار فضلا عن كونه طريقة من طرائق التدريس التي يمكن أن يستخدمها المعلم في تدريسه لطلابه، فهو طريقة تعلمية أيضا، إذ لا بد للمتعلم أن يكون ماهرا في استخدامه؛ ذلك أنه ليس كل حوار [ ص: 86 ] يؤدي إلى النتائج المتوخاة منه. ولهذا فإننا عندما نرجع إلى القرآن الكريم نجد أنه يرشدنا إلى كيفية استخدام هـذه المهارة المهمة،

        يقول الحق تبارك وتعالى: ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم ) (البقرة:260) .

        إن مثل هـذه الحوار يدلل على أنه ليس كل أشكال الحوار تبدأ من المعلم، بل لا بد أن يتمكن المتعلم من مهارة الحوار.

        ومهارة الحوار تحتاج من المتعلم أن يكون ملما بأبعاد الحوار الذي سيقوم به، حتى لا تخرج أسئلة الحوار عن موضوعه. وهذا ما نفيده من كثير من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، من ذلك: ( عن أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك.. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك.. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك.. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك )



        [50] . فالسائل هـنا لم يخرج عن موضوع السؤال.

        ومما يساعد على نجاح مهارة الحوار أن المتعلم إذا استخدمها لا بد أن يكون قادرا على إعطاء مقدمة عن موضوع الحوار، كما جاء في الحديث الذي روته سودة بنت زمعة ، رضي الله عنها ، ( قالت: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يحج.. قال: أرأيتك لو كان على أبيك دين فقضيته عنه قبل منك؟ قال: نعم.. قال صلى الله عليه وسلم : فالله أرحم، [ ص: 87 ] حج عن أبيك )



        [51] . فهذا الحديث يرشدنا إلى أن من مهارة الحوار أن يكون المتعلم قادرا على إعطاء مقدمة ينطلق منها في سؤاله.

        ومن مهارة الحوار أيضا أن يثق المتعلم في أن المعلم الذي يجيب عن حواره سيفيده، ويقدم له الإجابات الشافية؛ لأنه ليس كل أحد يمكن للمتعلم أن يتحاور معه. وفي هـذا يقول الإمام الشافعي ، رحمه الله: «من إذالة العلم أن تناظر كل من ناظرك، وتقاول كل من قاولك»



        [52] . وقال أبو عمرو ابن العـلاء : «وليس من الأدب أن تجـيب من لا يسـألك، أو تسأل من لا يجيبك، أو تحدث من لا ينصت لك»



        [53] .

        7- مهارة تنمية الثروة اللغوية

        عندما كانت لغة القرآن الكريم هـي اللغة العربية، وكانت اللغة العربية بشكل عام من أهم العلوم التي يحتاجها كل متعلم؛ فإن من المهم أن تكون لدى المتعلم ثروة لغوية جـيدة يسـتطيع من خلالها فهم كتاب الله، وفهم ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

        يقول الحق تبارك وتعالى: ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) (الشعراء:192-195) .

        ولما للغة من أهمية وفضل؛ فإن الله جل وعلا لم يبعث نبيا إلا بلغة قومه؛ حتى يفهموا ما جاء به من دعوة، [ ص: 88 ] كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد ( عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لم يبعث الله نبيا إلا بلغة قومه )



        [54] .

        ومهارة تنمية الثروة اللغوية، مهارة أساسية للمتعلم في التربية الإسلامية؛ ذلك أن من أهم ما يساعد على فهم موضوعات التربية الإسلامية والإفادة منها أن يكون لدى المتعلم ثروة لغوية تساعده على ذلك، الأمر الذي يقتضي أن تتوفر لدى المتعلمين «القدرة على التزود بثروة لغوية كبيرة»



        [55] ، وأن يتمكن المتعلمون من «استثمار الثروة اللغوية، التي كونوها من خلال دراستهم لموضوعات التربية الإسلامية أو غيرها من موضوعات المواد الأخرى، التي يدرسونها في أثناء مناقشتهم وحوارهم»



        [56] .

        من هـنا يجيء التأكيد أن مهارة تنمية الثروة اللغوية عند المتعلم من أهم المهارات التي يجب للمتعلم أن يكتسبها؛ لأن المتعلم في التربية الإسلامية معني بفهم القرآن الكريم وتأمله وتطبيق ما جاء فيه؛ ذلك أن «القرآن الكريم هـو بينبوع اللغة العربية الصافي، والاتصال به ينمي المهارات اللغوية لدى المتعلمين، ويزيد في ثروتهم وأساليبهم اللغوية. وما من إنسـان حفظ القرآن الكريـم إلا وصار فصيح اللسان، ثري الفكر، قوي العبارة»



        [57] . كما تتم «تنمية الثروة اللغوية والفكرية لدى التلاميذ عن طريق المفاهيم والأفكار والأساليب [ ص: 89 ] الجديدة، وتنمية روحهم الدينية، باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه»



        [58] ، ومن خلال توسيع دائرة فكر المتعلم بناء على المفاهيم التي يدرسها.

        ويمكن أن تنمو مهارة تنمية الثروة اللغوية عند المتعلم أيضا من خلال زيادة المفردات التي يتعلمها في التربية الإسلامية، ومن خلال التنظيم الجيد للمحتوى الذي يريد المتعلم أن يتمكن منه؛ إضافة إلى التدرب والتمرس على استخدام المعاجم والقواميس اللغوية، مع التركيز على الكلمات ومرادفاتها



        [59] . كما تنمو الثروة اللغوية أيضا من خلال اهتمام المتعلم بحصر الألفاظ والتراكيب التي يجدها في حياته العامة، ومحاولة إيجاد تفسير وفهم لها من خلال ما يدرسه في المدرسة.

        وتحتاج مهارة تنمية الثروة اللغوية من المتعلم أن يكون مهتما بما يتعلمه من محتوى تعـليمي بجميع مكوناته، سـواء كان ذلك مفاهيم، أو حقائق، أو مبادئ، أو تعميمات؛ لأن مثل هـذه المكونات يساعد المتعلم على الوقوف على كثير من التراكيب والمفردات التي يحتاجها؛ الأمر الذي يزيد في سعة مداركه، وقوة فهمه، ونمو تخيله بوجه عام.

        8- مهارة البحث

        يعود الاهتمام الكبير بتنمية مهارة البحث وتأكيدها إلى تأكيد الإسلام ضرورة الاستمرار في طلب العلم والتزود المستمر منه،

        يقول الحق تبارك وتعالى: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) (المجادلة:11) ؛

        فالقرآن الكريم يرفع من منـزلة الباحثين في العلم والجادين [ ص: 90 ] في طلبه، ويزيد ذلك تأكيدا اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالبحث عن العلم كما قال: ( ... إنما العلم بالتعلم )



        [60] ، ويشمل ذلك طلب العلم، ومهارات الحصول عليه، كمهارة البحث وغيرها.

        وتعد مهارة البحث من المهارات المهمة التي تساعد على نمو فكر المتعلم، وقدرته على التحصيل المستمر، انطلاقا من أن البحث منهج مهم في تطور كل فرد فضلا عن المتعلم. وقد حظيت التربية الإسلامية على مدى تاريخها بنماذج مشرقة من العلماء، الذين أسسوا استخدام هـذه المهارة في مواقف التعلم. فالإمام أبو حنيفة ، رحمه الله، كان يقول لتلميذه أبي يوسف بصدد المسألة التي ينتهي أصحابه من بحثها: «ضعها في الباب الفلاني»



        [61] . وكان الإمام الشافعي ، رحمه الله، يشجع طلابه على الكتابة والبحث، وأملى عليهم كتب العلم ليتعودوا على ذلك، ومن تلك الكتب كتاب الرسالة، وكتاب السبق، وكتاب الحجة، وكتاب الأم



        [62] . وقال الربيع : «لم أر الشافعي ، رضي الله عنه ، آكلا بنهار ولا نائما بليل، لاشـتغاله بالتصنيف»



        [63] . وكان ابن جماعة يرى أن على المتعلم أن يكثر من الاشتغال بالعلم «قراءة، وإقراء، ومطالعة، وفكرا، وتعليقا، وحفظا، وتصنيفا، وبحثا»



        [64] . و «حدد ابن جماعة قواعد معينة للبحث تتناسب مع التنظيم الدراسي الذي كان في زمنه... [ ص: 91 ]

        كذلك حدد كيفية تدوين المعلومات كالآيات المقتبسة والقواعد والآراء، ودعا إلى حسن الخط وتخير أدوات الكتابة... وحدد كيفية كتابة الحواشي، وأصولها، وتنظيم الأبواب والفصـول والتراجم، كأن تكتب بالحبر الأحمر، أو تكبير الخط وتغليظه، وحدد أساليب للترقيم، كأن توضع دائرة بين كل جملة والتي تليها، وأساليب للتوثيق مثل ذكر الشيخ الذي صحح الكتاب عليه أو نقله عنه أو غير ذلك مما يفيد معناه»



        [65] .

        ومن هـنا فإن هـذه المهارة تعد مهارة ضرورية للمتعلم، خاصة ونحن ندرك «أن الروح الدافعة للبحث العلمي المقصود والتي تعتمد الأسس الموضوعية أعلنها الإسلام في منطلقه الفكري منذ قيامه»



        [66] ، وندرك أيضا أن كل مهارة حديثة توجه إلى البحث العلمي، أنها معروفة كانت سلفا في تربية المسلمين وأساليبهم، التي كانوا يعتمدونها في مواقف التدريس والتعليم لديهم؛ انطلاقا من التأكيد الكبير على العلم في كتاب الله عز وجل ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

        ولعل مما يؤكد أهمية مهارة البحث، كإحدى مهارات التحصيل المهمة في التربية الإسلامية، أن لها مقتضيات كثيرة، لا يمكن للمتعلم أن يستغني عنها في جميع مواقف التعلم، من ذلك: أن يكون المتعلم ملما بمهارات البحث في القرآن، مثل: «القدرة على التنقيب في المصادر المعتمدة في تفسير آيات القرآن الكريم»، و «كشف النواحي البلاغية في القرآن الكريم»



        [67] [ ص: 92 ]

        و «الكشف عن الآيات الناسخة والمنسوخة»



        [68] ، «واستخدام المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم»



        [69] . وأن يكون أيضا



        [70] «ماهرا في البحث عن أدلة إعجاز الله عز وجل في خلق الكائنات»، ماهرا في «كتابة الأبحاث عن إعجاز القرآن الكريم»؛ وأن يكون ملما بمهارات البحث في الحديث، مثل



        [71] : «استخدام صحيح الإمام البخاري»، و «استخدام المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الشريف»؛ وفي الثقافة الإسلامية لا بد أن تنمو لديه مهارة البحث في الكتابة عن موضوعات مثل



        [72] : «دور الأسرة في بناء المجتمع الصالح»، «تميز الأمة الإسلامية ووسائل نهوضها»، «المشكلات التي تعاني منها الأقليات المسلمة»، «الشخصيات الإسلامية البارزة والمعارك الكبرى في تاريخ الإسلام»؛ وفي العقيدة لا بد «أن تنمو مهاراته في البحث والاطلاع، ليقف على ما يدعم العقيدة ويقوي الإيمان»



        [73] . ثم بعد ذلك أن يكون ملما بمهارات البحث في بقية فروع التربية الإسلامية الأخرى.

        ومهارة البحث في التربية الإسلامية تستوجب من المتعلم أن يكون باحثا عن كل مفيد، مطلعا على كل جديد، وأن يثري فكره بشكل مستمر، وأن يكون حريصا «على الاطلاع الخارجي في غير الكتب الدراسية، للقيام بالملاحظة، وإجراء المقارنات والموازنات، والبحث، [ ص: 93 ] والقراءة»



        [74] ؛ لأن التربية الإسلامية لا يقصد بها تلك الكتب المقررة في قاعة الدرس، وليس ذلك الموقف المحدود زمانا ومكانا ومجالا في المدرسة، ولكن التربية الإسلامية تعني البحث الذي لا ينقطع، والعلم الذي لا ينتهي، وقد كان الإمام أحـمد بن حنبل يقـول: «مع المحبرة إلى المقبرة»



        [75] ، وسئل رحمه الله: «إلى متى يكتب الرجل الحديث ؟ قال: حتى يموت»



        [76] .

        ومهارة البحث في التربية الإسلامية تعني أن المتعلم لا بد أن يكون جادا في الطلب، وأن يهتم بمعرفة الجديد، وأن يتعمق في العلم الذي يريد البحث عنه، ذلك أنه من خلال مهارة البحث «يطلع على حقائق العلم ودقائقه... لأنه يضطره إلى كثرة التفتيش والمطالعة والتحقيق والمراجعة»



        [77] . وتقتضي هـذه المهارة أن يكون البحث دقيقا حتى يتاح للباحث الوقوف على دقائق العلم وأسراره، يقول عبد الله بن المعتز : «بالبحث والنظر تستخرج دقائق العلوم»



        [78] .

        إن مهارة البحث تستوجب من المتعلم أن يكون قادرا على القراءة التحليلية، وهي القدرة على «استخلاص الأفكار، والاحتفاظ بالمعلومات، والتفاعل مع النص المقروء»



        [79] . كما أن من مهارة البحث أيضا أن يبحث [ ص: 94 ] المتعلم في موضوع جديد - كما يقول الإمام النووي - «يعم الانتفاع به، ويكثر الاحتياج إليه»



        [80] .

        وإضافة إلى ذلك كله، فإن من مهارة البحث أيضا أن يكون فكر المتعلم واضحا، وموجزا إيجازا غير مخل، وأن تظهر شخصيته في البحث، وأن تكون نهاية البحث بداية لإعداده من جديد من حيث تهذيبه، وإعادة ترتيبه وتنظيمـه، كما يقـول ابن جماعة : «والأولى أن يعتني بما يعم نفعه وتكثر الحاجة إليه، وليكن اعتناؤه بما لم يسبق إلى تصنيفه، متحريا إيضاح العبارة... معرضا عن التطويل الممل والإيجاز المخل، مع إعطاء كل مصنف ما يليق به، ولا يخرج تصنيفه من يده قبل تهذيبه وتكرير النظر فيه وترتيبه»



        [81] .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية