الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        العاشرة : إذا قال الشريك الموسر : أعتقت نصيبك ، فعليك قيمة نصيبي ، فأنكر ، فإن كان للمدعي بينة ؛ قضي بها ، ومتى يعتق حصة المدعي ؟ فيه الأقوال . وإن لم يكن بينة ، صدق المنكر بيمينه ، فإن حلف ، رق نصيبه ، وإن نكل ، حلف المدعي اليمين المردودة ، واستحق القيمة ، والصحيح أنه لا يحكم بعتق نصيب المدعى عليه ; لأن الدعوى إنما توجهت عليه بسبب القيمة ، وإلا فلا معنى للدعوى على إنسان بأنه أعتق عبده ، وإنما هذا وظيفة العبد ، لكن لو شهد آخر مع هذا المدعي ، ثبت العتق بشهادة الحسبة .

                                                                                                                                                                        قال الإمام : وأبعد بعض من لا خبرة له ، فحكم بالعتق تبعا لدعوى القيمة ، وهل يحكم بعتق [ ص: 127 ] نصيب المدعي إذا حلف المدعى عليه ، أو نكل وحلف المدعي ؟ إن قلنا بتعجيل السراية ، فنعم ، لاعترافه بسراية إعتاق المدعى إليه إلى نصيبه ، وإن قلنا بالتأخر ، لم يعتق . وإذا عتق نصيبه ، لم يسر إلى نصيب المنكر ، وإن كان المدعي موسرا ; لأنه لم ينشئ العتق ، فأشبه ما لو ادعى أحد الشريكين على رجل أنك اشتريت نصيبي وأعتقته ، وأنكر المدعى عليه ، يعتق نصيب المدعي ولا يسري . وإن قلنا : لا يعتق إلا بعد أداء القيمة ، لم يعتق نصيب المدعي . ولو صدق المدعى عليه الشريك ، فلا إشكال ، وإن كان المدعى عليه معسرا ، وأنكر ، وحلف ، لم يعتق شيء من العبد ، فإن اشترى المدعي نصيبه بعد ذلك ، عتق ما اشتراه ، لاعترافه بحريته ، ولا يسري إلى الباقي . ولو ادعى كل واحد من الشريكين الموسرين على صاحبه أنك أعتقت نصيبك ، وطالب بالقيمة ، وأنكر ، صدق كل واحد بيمينه فيما أنكره ، فإذا حلفا ، فلا يطالب بالقيمة ، ويحكم بعتق جميع العبد إن قلنا بتعجيل السراية ، والولاء موقوف ; لأنه لا يدعيه أحد . وإن قلنا بتأخر السراية أو بالتبين ، فالعبد رقيق ، وإن كانا معسرين ، وقال كل واحد للآخر : أعتقت نصيبك ، لم يعتق منه شيء ، فإن اشترى أحدهما نصيب الآخر ، حكم بعتق ما اشتراه ، ولا يسري ; لأنه لم ينشئ إعتاقا .

                                                                                                                                                                        وذكر البغوي أنه لو باع أحدهما لعمرو ، والآخر لزيد ، صح ، ولا عتق . ولو باعاه لزيد ، حكم بعتق نصفه ; لأنه متيقن ، وهذا ليس بصحيح ولا يقين في واحد من النصفين ، لجواز كونهما كاذبين .

                                                                                                                                                                        وإن كان أحدهما موسرا ، والآخر معسرا ، عتق نصيب المعسر على قول تعجيل السراية ، وولاؤه موقوف ، ولا يعتق نصيب الموسر ، فإن اشتراه المعسر ، عتق كله . ولو طار طائر ، فقال أحدهما : إن كان غرابا ، فنصيبي من هذا العبد حر ، وقال الآخر : إن لم يكن غرابا ، فنصيبي حر ، ولم يبين الحال ، فإن كانا [ ص: 128 ] معسرين ، فلا عتق ، فإن اشترى أحدهما نصيب الآخر ، حكم بعتق أحد النصفين . ولو باعاه لثالث ، حكم بعتق أحد النصفين أيضا ، ولا رجوع على واحد منهما ; لأن كل واحد يزعم أن نصيبه مملوك ، هذا هو الأصح ، وبه قال القفال ، وقطع به الغزالي .

                                                                                                                                                                        وحكى الشيخ أبو علي وجها أنه إن اشتراه عالما بالتعليقين ، فلا رجوع له ، وإن لم يعلم ، ثم علم ، فله الرد ، كما لو اشترى عبدا ، فبان أن نصفه حر ، فعلى هذا يرد العبد ; لأن نصفه حر ، والنصف الآخر معيب بسبب التشقيص . قال الشيخ أبو علي ولو اختلف النصيبان ، لم يعتق إلا أقلهما . ولو تبادلا النصيبين ، فإن لم يحنث واحد منهما صاحبه ، بل اعترفا بالإشكال ، لم يحكم على واحد منهما بعتق شيء ، والحكم بعد المبادلة كالحكم قبلها . وإن حنث كل واحد الآخر ، حكم بعتق الجميع ، لاعتراف كل واحد بعتق ما صار إليه ، ويكون الولاء موقوفا . وإن حنث أحدهما صاحبه . ولم يحنثه الآخر ، حكم بعتق ما صار للمحنث ، وولاؤه موقوف ، ولا يحكم بعتق نصيب الآخر .

                                                                                                                                                                        وإن كانا موسرين ، فإن قلنا بتعجيل السراية ، عتق العبد ، لأنا نتحقق حنث أحدهما ، وإن لم نتمكن من التعيين ، فيعتق نصيبه ، ويسري إلى الثاني ، والولاء موقوف ، ولكل واحد منهما أن يدعي قيمة نصيبه على الآخر ، ويحلفه على البت أنه لم يحنث . وإن قلنا : لا تحصل السراية إلا بأداء القيمة ، لم يحكم بعتق شيء منه ، والحكم كما في المعسرين ، قال الشيخ أبو علي : فإن ادعى كل واحد على صاحبه أنه عتق نصيبه ، وأراد طلب القيمة ، حلفه ، كما ذكرنا على قول تعجيل السراية . وإن كان أحدهما موسرا ، والآخر معسرا ، فإن قلنا بتعجيل السراية ، عتق نصيب المعسر بكل حال ، ولا يعتق نصيب الموسر للشك فيه . وإن أخرناها إلى أداء القيمة ، لم يحكم بعتق شيء في الحال ، وللمعسر أن يدعي التقويم على الموسر ويحلفه .

                                                                                                                                                                        [ ص: 129 ] فرع

                                                                                                                                                                        قال أحدهما : أعتقناه معا ، وأنكر الآخر ، فإن كانا موسرين ، أو كان القائل موسرا ، فقد أطلق ابن الحداد أنه يحلف المنكر ، وتابعه جماعة . قال الشيخ : إنما يحلف عندي إذا قال للمقر : أنت أعتقت نصيبك وأنا لم أعتق وأراد طلب القيمة فيحلفه أنه لم يعتق معه ليأخذ القيمة ; لأن المقر أقر بما يوجب القيمة ، وادعى ما يسقطها ، وهو الموافق في الإعتاق ، فيدفع يمينه المسقط ، فأما إذا قال : لم تعتق نصيبك ، ولا أنا أعتقته ، فلا مطالبة بالقيمة ، ولا يمين . وهل يحكم بإعتاق جميع العبد بإقرار الموسر ؟ إن أثبتنا السراية بنفس الإعتاق ، فنعم ، وإن أخرناها ، لم يعتق نصيب المنكر ، وإذا حلف المنكر في التصوير الأول أخذ القيمة من المقر ، وحكم بعتق جميع العبد ، وولاء نصيب المنكر موقوف . فلو مات العتيق ، ولا وارث له سوى المقر أخذ نصف ماله بالولاء .

                                                                                                                                                                        وهل له أن يأخذ من النصف الآخر قدر نصف القيمة الذي غرمه للمنكر ؟ وجهان . أحدهما : نعم ; لأنه إن صدق ، فالمنكر ظالم له ، وهذا ماله بالولاء ، وإن كذب ، فهو مقر بإعتاق جميعه ، فجميع المال له بالولاء ، والثاني لاختلاف الجهة .

                                                                                                                                                                        قلت : الأول أصح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وإن رجع المنكر عن إنكاره ، وصدق المقر ، رد ما أخذ منه . وإن رجع المقر ، واعترف بأنه أعتقه كله ، قبل ، وكان جميع الولاء له ، كما لو نفى نسبا يلحقه ثم استلحقه [ ص: 130 ] فرع

                                                                                                                                                                        عبد بين ثلاثة ، شهد اثنان منهم أن الثالث أعتق نصيبه ، فإن كان الثالث معسرا ، قبلت شهادتهما ، وحكم بعتق نصيب الثالث ، ورق الباقي . وإن كان موسرا ، فالأصح وبه قال ابن الحداد أن شهادتهما باطلة ، لأنهما متهمان بإثبات القيمة ، فلا يعتق نصيبه ، ولا يلزمه لهما قيمة ، ويعتق نصيبهما ، لاعترافهما بالسراية إليه ، وقيل : تقبل شهادتهما في عتق نصيبه دون القيمة ، وهو ضعيف ، والحكم بعتق نصيبهما مفرع على تعجيل السراية ، فإن أخرناها ، لم يعتق شيء من العبد ، لكن لا ينفذ تصرفهما ، لاعترافهما بأنه مستحق العتق على الثالث ، هكذا حكاه الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب ، وصححه ، ويجوز أن يقال : قد سبق أن تعذر حصول القيمة بإعسار وغيره يرفع الحجر عن الشريك ، والتعذر هنا حاصل .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية