الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الطرف الثاني : في كيفية الحلف ، فإن حلف على فعل نفسه ، حلف على البت ، سواء كان يثبته أم ينفيه ؛ لأنه يعلم حال نفسه ، وإن حلف على فعل غيره ، فإن حلف على إثباته ، حلف على البت ، وإن حلف على نفيه ، حلف أنه لا يعلمه ، وقد يختصر ، فيقال : اليمين على البت إلا إذا حلف على نفي فعل غيره ، فإذا ادعى عليه مالا ، فأنكر حلف على البت ، وإن حلف على نفيه ، حلف على البت ، فإن ادعى إبراء أو قضاء ، وأنكر المدعي ، حلف على البت ، ولو ادعى وارث على رجل أن لمورثي عليك كذا ، فقال المدعى عليه : أبرأني ، أو قضيته ، حلف المدعي على نفي العلم بإبراء المورث وقبضه ، ولو كان في يده دار ، فقال رجل : غصبها مني أبوك أو بائعك ، فأنكر ، حلف على نفي العلم [ ص: 35 ] لغصبه ، ولو ادعى رجل على وارث الميت دينا على الميت ، لم يكف ذكر الدين ووصفه ، بل يذكر مع ذلك موت من عليه ، وأنه حصل في يده من التركة ما يفي بجميعه أو ببعضه ، وأن يعلم دينه على مورثه ، وهكذا كل ما يحلف المنكر فيه على العلم يشترط في الدعوى عليه التعرض للعلم ، فيقول : غصب مني مورثك كذا ، وأنت تعلم أنه غصبه ، ثم إذا تعرض لجميع ذلك ، فإن أنكر الوارث الدين ، حلف على نفي العلم ، فإن نكل ، حلف المدعي على البت ، وإن أنكر موت من عليه ، فهل يحلف على نفي العلم أم على البت ؛ لأن الظاهر اطلاعه عليه ، أم يفرق بين تعهده حاضرا أم غائبا ؟ فيه أوجه ، أصحها : الأول ، وإن أنكر حصول التركة عنده ، حلف على البت ، وإن أنكر الدين ، وحصول التركة معا وأراد أن يحلف على نفي التركة وحده ، وأراد المدعي تحليفه على نفي التركة ، ونفي العلم بالدين جميعا ، حلف عليهما ؛ لأن له غرضا في إثبات الدين ، فلعله يظفر بوديعة للميت أو دين فيأخذ منه حقه . ولو ادعى على رجل أن عبدك جنى علي بما يوجب كذا ، وأنكر فهل يحلف على نفي العلم أم على البت ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني ؛ لأن عبده ماله ، وفعله كفعله ، ولذلك سمعت الدعوى عليه ، ولو ادعى أن بهيمتك أتلفت لي زرعا أو غيره حيث يجب الضمان ، فأنكر ، حلف على البت ؛ لأنه لا ذمة لها ، والمالك لا يضمن بفعل البهيمة ، بل بتقصيره في حفظها وهو أمر يتعلق بالحالف ، ولو نصب البائع وكيلا ليقبض الثمن ، ويسلم المبيع ، فقال له المشتري : إن موكلك أذن في تسليم المبيع ، وترك حق الجنس ، وأنت تعلم ، فهل يحلف على البت ، أم على نفي العلم ؟ قولان ، اختيار أبي زيد البت ؛ لأنه يثبت لنفسه استحقاق اليد على المبيع .

                                                                                                                                                                        قلت : نفي العلم أقوى . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 36 ] ولو طلب البائع تسليم المبيع ، فادعى حدوث عجز عنه ، وقال للمشتري : أنت عالم به ، فأنكر ، حلف على البت ؛ لأنه يستبقي بيمينه وجوب تسليم المبيع إليه ، ولو مات عن ابن في الظاهر ، فقال آخر : أنا أخوك والميراث بيننا ، فأنكر ، حلف على البت ؛ لأن الأخوة رابطة بينهما ، فهو حالف في نفسه ، هكذا ذكر الصورتين ابن القاص ، ونازعه آخرون ، وقالوا : يحلف على نفي العلم .

                                                                                                                                                                        قلت : نفي العلم هو الصحيح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ما حلف فيه على البت لا يشترط لجوازه اليقين ، بل يجوز البت بناء على ظن مؤكد يحصل من خطه أو خط أبيه ، أو نكول خصمه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو استحلفه القاضي على البت حيث يكون اليمين بنفي العلم ، فقد مال عن العدل .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        النظر في اليمين إلى نية القاضي المستحلف وعقيدته ، وأما النية والتورية والتأويل على خلاف قصد القاضي لا يغني ، ولا يدفع إثم اليمين الفاجرة ، ولو استثنى ، أو وصل باللفظ شرطا بقلبه ونيته أو بلسانه ، ولم يسمعه الحاكم ، فكذلك ، وإن سمعه عزره ، وأعاد اليمين عليه ، وإن وصله بكلام لم يفهمه القاضي منعه منه ، وأعاد اليمين [ ص: 37 ] عليه ، فإن قال : كنت أذكر الله تعالى قيل له : ليس هذا وقته ، وأما العقيدة ، فإذا ادعى حنفي على شافعي شفعة الجار ، والقاضي يرى إثباتها ، وأنكر المدعى عليه ، فليس له أن يحلف عملا باعتقاده ، بل عليه اتباع القاضي ، ويلزمه في الظاهر ما ألزمه القاضي ، وهل يلزمه في الباطن ؟ وجهان ، الصحيح باتفاقهم : نعم ، والثاني : لا ، وعن صاحب " التقريب " أن القضاء في المجتهد فيه ينفذ في حق المقلد ظاهرا وباطنا ، ولا ينفذ في حق المجتهد باطنا ، فلو حلفه المجتهد على حسب اجتهاده لم يأثم .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا إذا حلفه القاضي أو نائبه ، أما إذا حلف الإنسان ابتداء ، أو حلفه غير القاضي من قاهر ، أو خصم ، أو غيرهما ، فالاعتبار بنية الحالف بلا خلاف ، وينفعه التورية قطعا ، سواء حلف بالله تعالى ، أو بطلاق وعتاق وغيرهما صرح به الماوردي ، ونقله ابن الصباغ عن الأصحاب ذكراه في كتاب الطلاق . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية