الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              فصل

                                                              وأما المسألة الثانية: وهي إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فهل يجوز أن يأخذ عن دين السلم عوضا من غير جنسه ؟ فيه وجهان.

                                                              أحدهما: لا يجوز ذلك حتى يقبضه، ثم يصرفه فيما شاء، وهذا اختيار الشريف أبي جعفر. وهو مذهب أبي حنيفة.

                                                              والثاني: يجوز أخذ العوض عنه، وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب الشافعي، وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة، فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون، من القرض وغيره.

                                                              وأيضا: فهذا مال رجع إليه بفسخ العقد، فجاز أخذ العوض عنه، كالثمن في المبيع.

                                                              وأيضا: فحديث ابن عمر في المعاوضة عما في الذمة صريح في الجواز.

                                                              واحتج المانعون بقوله " من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ".

                                                              [ ص: 494 ] قالوا: ولأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم تجز المعاوضة عليه قبل قبضه وحيازته كالمسلم فيه.

                                                              قال المجوزون: أما استدلالكم بالحديث: فقد تقدم ضعفه.

                                                              ولو صح لم يتناول محل النزاع؛ لأنه لم يصرف المسلم فيه في غيره، وإنما عاوض عن دين السلم بغيره، فأين المسلم فيه من رأس مال السلم ؟.

                                                              وأما قياسكم المنع على نفس المسلم فيه: فالكلام فيه أيضا، وقد تقدم: أنه لا نص يقتضي المنع منه، ولا إجماع، ولا قياس.

                                                              ثم لو قدر تسليمه لكان الفرق بين المسلم فيه ورأس مال السلم واضحا، فإن المسلم فيه مضمون بنفس العقد، والثمن إنما يضمن بعد فسخ العقد، فكيف يلحق أحدهما بالآخر ؟ فثبت أنه لا نص في المنع، ولا إجماع ولا قياس.

                                                              فإذا عرف هذا فحكم رأس المال بعد الفسخ حكم سائر الديون، لا يجوز أن تجعل سلما في شيء آخر، لوجهين.

                                                              أحدهما: أنه بيع دين بدين.

                                                              والثاني: أنه من ضمان المسلم إليه، فإذا جعله سلما في شيء آخر ربح فيه، وذلك ربح ما لم يضمن، ويجوز فيه ما يجوز في دين القرض وأثمان المبيعات إذا فسخت، فإذا أخذ فيه أحد النقدين عن الآخر وجب قبض العوض في المجلس؛ لأنه صرف بسعر يومه، لأنه غير مضمون عليه. [ ص: 495 ] وإن عاوض عن المكيل بمكيل، أو عن الموزون بموزون من غير جنسه، كقطن بحرير أو كتان، وجب قبض عوضه في مجلس التعويض، وإن بيع بغير مكيل أو موزون، كالعقار والحيوان، فهل يشترط القبض في مجلس التعويض ؟ فيه وجهان.

                                                              أصحهما: لا يشترط، وهو منصوص أحمد.

                                                              والثاني: يشترط.

                                                              ومأخذ القولين: أن تأخير قبض العوض يشبه بيع الدين بالدين، فيمنع منه، ومأخذ الجواز - وهو الصحيح - أن النساء بين ما لا يجمعها علة الربا، كالحيوان بالموزون جائز للاتفاق على جواز سلم النقدين في ذلك، والله أعلم.

                                                              ونظير هذه المسألة: إذا باعه ما يجري فيه الربا، كالحنطة مثلا بثمن مؤجل، فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة، أو مكيلا آخر من غير الجنس، مما يمتنع ربا النساء بينهما، فهل يجوز ذلك ؟ فيه قولان.

                                                              أحدهما: المنع، وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس، وهو مذهب مالك وإسحاق.

                                                              والثاني: الجواز.

                                                              وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وابن المنذر، وبه قال جابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب المغني وشيخنا.

                                                              [ ص: 496 ] والأول: اختيار عامة الأصحاب. والصحيح: الجواز، لما تقدم.

                                                              قال عبد الله بن زيد: قدمت على علي بن حسين فقلت له " إني أجذ نخلي، وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل.

                                                              فيقدمون بالحنطة، وقد حل الأجل فيوقفونها بالسوق فأبتاع منهم، وأقاصهم ؟ قال: لا بأس بذلك، إذا لم يكن منك على رأي " يعني إذا لم يكن حيلة مقصودة.

                                                              فهذا شراء للطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول، فصح، لأنه لا يتضمن ربا بنسيئة ولا تفاضل.

                                                              والذي يمنعون ذلك يجوزون أن يشتري منه الطعام بدراهم، ويسلمها إليه، ثم يأخذها منه وفاء أو يشتريه منه بدراهم في ذمته، ثم يقاصه بها، ومعلوم أن شراءه الطعام منه بالدراهم التي له في ذمته أيسر من هذا وأقل كلفة، والله أعلم.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية