الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ 346 ] أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، حدثنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، حدثنا أبو عمرو سعيد بن حفص خال النفيلي ، حدثنا موسى بن أعين ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، وعن عمران يعني البارقي ، عن عطية ، عن [ ص: 533 ] أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه وأصغى سمعه ، وحنا جبينه ينتظر متى يؤمر فينفخ ؟ " قالوا : يا رسول الله ، كيف نقول ؟ قال : " قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا " .

أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن بالويه المزكي ، أخبرنا أبو الوليد الفقيه ، حدثنا إبراهيم بن علي ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا موسى بن أعين ، فذكر حديث أبي صالح بمعناه .

قال البيهقي رحمه الله : " فإذا نفخ في الصور فصعق من في السماوات ، ومن في الأرض كما قال الله عز وجل : ( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ، ومن في الأرض إلا من شاء الله ) .

واختلفوا في هذا الاستثناء " فروي عن جابر بن عبد الله أنه قال : " موسى فيمن استثنى الله ، قد صعق مرة " ، وهذا لما في الحديث الثابت ، عن أبي هريرة في المسلم [ ص: 534 ] الذي لطم اليهودي حين قال : والذي اصطفى موسى على البشر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوا بين أنبياء الله ، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ، ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث ، أو في أول من بعث ، فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطور ، أم بعثه قبلي " وهذا حديث صحيح .

قال البيهقي رحمه الله : " ووجهه عندي أن نبينا صلى الله عليه وسلم أخبر عن رؤية جماعة من الأنبياء ليلة المعراج ، وإنما يصح ذلك على تقدير أن الله تعالى رد إليهم أرواحهم فهم أحياء عند ربهم ، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا فيمن صعق ، ثم لا يكون ذلك موتا في جميع معانيه ، إلا في ذهاب الاستشعار فإن كان موسى فيمن استثنى الله عز وجل بقوله : ( إلا من شاء الله ) فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة ، والله أعلم " .

وروينا عن سعيد بن جبير أنه قال : " هم الشهداء ثنية الله عز وجل مقلدي السيوف حول العرش " .

وروي فيه حديث مرفوع ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية وقال : " ومن الذين لم يشأ الله عز وجل أن يصعقوا ؟ قال : هم شهداء الله عز وجل " .

وهذا ؛ لأن الله عز وجل أخبر في كتابه أنهم أحياء عند ربهم يرزقون فلا يموتون في النفخة الأولى فيمن يموت من الأحياء والله أعلم . [ ص: 535 ]

وروينا عن زيد بن أسلم أنه قال : " الذين استثنى الله عز وجل اثنا عشر : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، وحملة العرش ثمانية " .

وذهب الحليمي رحمه الله إلى اختيار قول من قال : " إن الاستثناء لأجل الشهداء ، ورواه عن ابن عباس ، وحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في موسى عليه السلام على أنه لم يدر أبعث قبل غيره من الأنبياء عليهم السلام تخصيصا له عليه السلام كما فضل في الدنيا بالتكليم ، أو قدم بعثه على بعث غيره من الأنبياء عليهم السلام بقدر صعقته عندما تجلى ربه للجبل إلى أن أفاق ليكون هذا جزاء له بها ، وليس فيه أن يموت عند النفخة الأولى .

وضعف قول من زعم الاستثناء لأجل الملائكة الذين سماهم ؛ لأنهم ليسوا من سكان الأرض ؛ لأن العرش فوق السماوات كلها وجبريل وميكائيل من الصافين المسبحين حول العرش فلم يدخلوا في الآية .

وكذلك لا يدخل فيها الولدان والحور ؛ لأن الجنة فوق السماوات ، والآية في سكان السماوات والأرض " .

ثم قد ورد في بعض الآثار يميت حملة العرش ، ويميت جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت ، ثم ينادي لمن الملك اليوم فلا يجبه أحد فيقول هو لله الواحد القهار .

وقد روي فيه حديث مرفوع في إسناده ضعف ، وقد ذكرناه في كتاب البعث والنشور . [ ص: 536 ]

وأما الجنة وما فيها من الحيوان فإنها خلقت للبقاء لا للفناء ، وهي دار لذة وسرور ، ولم يأتنا خبر بموت من فيها .

فإن قيل : قد قال الله عز وجل : ( كل نفس ذائقة الموت ) .

( كل شيء هالك إلا وجهه ) .

قال الحليمي رحمه الله : " يحتمل أن يكون معناه ما من شيء إلا وهو قابل للهلاك فيهلك إن أراد الله به ذلك إلا وجهه أي إلا هو ، فإنه تعالى جده قديم والقديم لا يجوز عليه الفناء وما عداه محدث ، والمحدث لا يبقى إلا قدر ما يبقيه محدثه ، فإذا حبس البقاء عنه فني ، ولم يبلغنا في خبر أنه يهلك العرش ويفنيه فلتكن الجنة مثله والله أعلم .

قال البيهقي رحمه الله : وروينا عن سفيان الثوري أنه قال : في تفسير هذه الآية : " كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه " .

وفي رواية : " إلا ما ابتغي به وجهه من الأعمال الصالحة " .

فإذا مات الأحياء كلهم ، وجاء وقت النفخة الأخرى فقد جاء في حديث الصور وهو حديث روي عن محمد بن كعب ، عن رجل ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي إسناده مقال فذكر قصة في النفخة الأولى وما بعدها " وذكر موت جبريل وميكائيل ، ثم موت حملة العرش ، وموت إسرافيل ، ثم موت ملك الموت ، ثم ينزل ماء من تحت العرش كمني الرجال ، ثم يأمر السماء أن تمطر أربعين يوما ، ويأمر الأجساد أن تنبت كنبات الطراثيث ، أو كنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم قال الله تعالى : ليحيى حملة العرش فيحيون ، ثم يقول : ليحيى جبريل ، وميكائيل أظنه ، وذكر معهما [ ص: 537 ] غيرهما فيحيون فيأمر الله عز وجل إسرافيل فيأخذ الصور فيضعه على فيه ، ثم يدعو الله بالأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المؤمنين نورا ، والأخرى ظلمة فيلقيها في الصور ، ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ فيه نفخة البعث فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول : الله وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الخياشيم ، ثم تمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ، ثم تنشق الأرض عنهم سراعا " .

[ 347 ] وهذا فيما قرئ إسناده على الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وأنا أسمع ، أن أبا بكر محمد بن عبد الله الشافعي أخبرهم ، حدثنا أبو قلابة الرقاشي ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا إسماعيل بن رافع ، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وروينا في حديث آخر بإسناد ضعيف عن ابن عباس في صفة القيامة فذكر فيه صفة الصور وعظمه ، وعظم إسرافيل - ثم قال : " [ ص: 538 ] فإذا بلغ الوقت الذي يريد الله أمر إسرافيل فينفخ في الصور النفخة الأولى ، فتهبط النفخة من الصور إلى السماوات فيصعق سكان السماوات بحذافيرها ، ثم تهبط النفخة إلى الأرض فيصعق سكان الأرض بحذافيرها ، وجميع عالم الله وبريته فيهن من الجن والإنس ، والهوام والأنعام " . قال : " وفي الصور من الكوى عدد من يذوق الموت من جميع الخلائق ، فإذا صعقوا جميعا يقول الله عز وجل : يا إسرافيل من بقي ؟ فيقول : بقي إسرافيل عبدك الضعيف ، فيقول : مت يا إسرافيل فيموت ، ثم يقول الجبار تعالى : لمن الملك اليوم ؟ فلا هميس ، ولا حسيس ، فلا ناطق يتكلم ، ولا مجيب يفهم ، وقد مات حملة العرش وإسرافيل ، وملك الموت ، وكل مخلوق فيرد الجبار على نفسه لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب ، وذلك حين تمت كلمة ربك صدقا ، وعدلا لا مبدل لكلماته ، وهو السميع العليم فتتم كلمته بإنفاذ قضائه على أهل أرضه وسمائه ؛ لقوله تعالى : ( كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ) .

فأما إسرافيل فيموت ويحيى في طرفة عين ، وأما حملة العرش فيحيون في أسرع من طرفة عين فيأمر الله تعالى إسرافيل بعد النفخة الأولى بأربعين ، وكذلك هو في التوراة بين النفختين أربعون لا يدر ما هو ، فإذا انقضت الأربعون نظر الله إلى أهل السماوات ، وإلى أهل الأرضين فيقول : وعزتي لأعيدنكم كما بدأتكم ولأحيينكم كما أمتكم ، ثم يأمر إسرافيل فينفخ النفخة الثانية ، وقد جمعت الأرواح كلها في الصور ، فإذا نفخ خرج كل روح من كوة معلومة من كوى الصور ، فإذا الأرواح تهوش بين السماء والأرض لها دوي كدوي النحل فينادي إسرافيل : يا أيتها الجلود المتمزقة ، ويا أيتها الأعضاء المتهشمة ، ويا أيتها العظام البالية ، ويا أيتها الأجساد المتفرقة ، ويا أيتها الأشعار المتمرطة قوموا إلى موقف الحساب ، والعرض الأكبر فيدخل كل روح في جسده قال : وتمطر السماء طشا من تحت العرش على جميع [ ص: 539 ] الموتى فيحيون كما تحيى الأرض الميتة بوابل السماء فيبعث الله الأجساد التي كانت في الدنيا من حيث كانت بعضها من بطون السباع وبعضها من حواصل الطير ، وحيتان البحور ، وبطون الأرض ، وظهورها فيدخل كل روح في جسده ، فإذا هم قيام ينظرون فيبعث الله نارا من المشارق فتحشر الناس إلى المغارب إلى أرض تسمى الساهرة من وراء بيت المقدس أرض طاهرة لم يعمل عليها سيئة ولا خطيئة فذلك قوله : ( فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة ) .

وقوله ( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ) .

( وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ) .

( ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت ) الآية "
.

التالي السابق


الخدمات العلمية