الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4347 باب: في قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك الآية

                                                                                                                              وقال النووي: ( باب وجوب اتباعه، صلى الله عليه وآله وسلم).

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 107، 108 جـ 15، المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير حدثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري سرح الماء يمر، فأبى عليهم، فاختصموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك! فتلون وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر فقال الزبير والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا الآية ]

                                                                                                                              [ ص: 149 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 149 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما؛ أن رجلا من الأنصار، خاصم الزبير، عند رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم: في شراج الحرة، التي يسقون بها النخل).

                                                                                                                              "الشراج": بكسر الشين المعجمة، وبالجيم. هي "مسايل الماء". واحدها: "شرجة. "والحرة": هي الأرض الملسة، فيها حجارة سود.

                                                                                                                              فقال الأنصاري: سرح الماء. أي: أرسله يمر. (فأبى عليهم، فاختصموا عند رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، فقال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم للزبير: "اسق، يا زبير! ثم أرسل الماء إلى جارك". فغضب الأنصاري؛ فقال: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك؟) بفتح الهمزة. أي: فعلت هذا، لكونه ابن عمتك). (فتلون وجه نبي الله صلى الله عليه) وآله (وسلم). أي: تغير من الغضب، لانتهاك حرمات النبوة، وقبح كلام هذا الإنسان.

                                                                                                                              (ثم قال: "يا زبير! اسق، ثم احبس الماء، حتى يرجع إلى الجدر): بفتح الجيم، وكسرها. وبالدال. وهو "الجدار". وجمع الجدار: "جدر". ككتاب وكتب. وجمع "الجدر": جدور [ ص: 150 ] فلس وفلوس.

                                                                                                                              ومعنى: "يرجع": يصير إليه. والمراد "بالجدر": أصل الحائط. وقيل: أصول الشجر. قال النووي: والصحيح الأول. وقدره العلماء: أن يرتفع الماء في الأرض كلها، حتى يبتل كعب رجل الإنسان. فلصاحب الأرض الأولى، التي تلي الماء: أن يحبس الماء في الأرض إلى هذا الحد، ثم يرسله إلى جاره الذي وراءه. وكان الزبير صاحب الأرض الأولى، فأدل عليه رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم. وقال: "اسق، ثم أرسل الماء إلى جارك". أي: اسق شيئا يسير دون قدر حقك، ثم أرسله إلى جارك: إدلالا على الزبير، ولعلمه بأنه يرضى بذلك، ويؤثر الإحسان إلى جاره. فلما قال الجار ما قال؛ أمره أن يأخذ جميع حقه.

                                                                                                                              قال العلماء: ولو صدر مثل هذا الكلام، الذي تكلم به الأنصاري اليوم، من إنسان، (من نسبته، صلى الله عليه وآله وسلم: إلى هوى): كان كفرا، وجرت على قائله أحكام المرتدين، فيجب قتله بشرطه.

                                                                                                                              قالوا: وإنما تركه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه كان في أول الإسلام يتألف الناس، ويدفع بالتي هي أحسن، ويصبر على أذى المنافقين، ومن في قلبه مرض. ويقول: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا". ويقول: "لا يتحدث الناس: أن محمدا يقتل [ ص: 151 ] أصحابه". وقد قال تعالى: ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين .

                                                                                                                              قال عياض: وحكى الداودي؛ أن هذا الرجل، الذي خاصم الزبير: كان منافقا. وقوله في الحديث: إنه أنصاري، لا يخالف هذا؛ لأنه كان من قبيلتهم، لا من الأنصار المسلمين.

                                                                                                                              وأما قوله في آخر الحديث: (فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: فلا وربك لا يؤمنون الآية"): فهكذا قال طائفة في سبب نزولها.

                                                                                                                              وقيل: نزلت في رجلين، تحاكما إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: فحكم على أحدهما، فقال: ارفعني إلى "عمر بن الخطاب".

                                                                                                                              وقيل: في يهودي ومنافق، اختصما إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلم يرض المنافق بحكمه، وطلب الحكم عند الكاهن.

                                                                                                                              قال ابن جرير: يجوز أنها نزلت في الجميع. والله أعلم. انتهى.

                                                                                                                              قلت: العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وتمام الآية: حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما .

                                                                                                                              وفي هذا: تعليق الإيمان بتحكيم النبي، صلى الله عليه وآله [ ص: 152 ] وسلم في كل مشاجرة، تقع فيما بينهم، مع عدم وجدان الحرج في النفس: من قضائه، صلى الله عليه وآله وسلم، والتسليم له. وهذا بعمومه: يشمل كل مسألة من مسائل الدين: أصلية كانت، أو فرعية. وأكد هذا بالقسم. فدلت الآية على وجوب ذلك.

                                                                                                                              ومفهوم الآية، بل منطوقها: إبطال التقليد، واتباع حكم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم. وهي حجة على المقلدين، الذين لا يحكمون رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: في مشاجرتهم في المذاهب، ولا يسلمون قضاءه عند الخصام فيما بينهم. بل لو جاء إنسان بحديث صحيح صريح، محكم غير منسوخ: في مسألة من مسائل الفروع، يخالف مذهب إمامهم، أو مذهبهم المختار، المحرر في كتب فروعهم وأصولهم: وجدوا منه في أنفسهم حرجا، ولم يرضوا به أبدا، بل رموا الجائي به: بكل حجر ومدر. وهذا صنيع كثير منهم، بل الأكثر. ويكفي في جواب هؤلاء: تلاوة هذه الآية الكريمة، التي أولها: فلا وربك لا يؤمنون .

                                                                                                                              وفي هذا الحديث: دليل على أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: معصوم في غضبه. والحكم في هذه الحالة: مختص [ ص: 153 ] به، ويجب نفاذه. ولا يجوز لغيره، من ولاة الأمور: القضاء في حال الغضب. وقد ورد النهي عنه صريحا في أحاديث أخر، في محلها.




                                                                                                                              الخدمات العلمية