المسألة الثامنة  
في  نسخ التلاوة دون الحكم والعكس ونسخهما معا   
وقد جعل   أبو إسحاق المروزي  ،  وابن السمعاني  ، وغيرهما ذلك ستة أقسام :  
 [ ص: 549 ]    ( الأول ) :  ما نسخ حكمه وبقي رسمه   ، كنسخ آية الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث ، ونسخ العدة حولا بالعدة أربعة أشهر وعشرا .  
فالمنسوخ ثابت التلاوة مرفوع الحكم ( والناسخ ثابت التلاوة والحكم ) وإلى جواز ذلك ذهب الجمهور ، بل ادعى بعضهم الإجماع عليه .  
وقد حكى جماعة من الحنفية والحنابلة عدم الجواز عن بعض أهل الأصول ، قالوا : لأنه إذا انتفى الحكم فلا فائدة في التلاوة ، وهذا قصور عن معرفة الشريعة ، وجهل كبير بالكتاب العزيز ، فإن المنسوخ حكمه ، الباقية تلاوته في الكتاب العزيز مما لا ينكره من له أدنى قدم في العلم .  
( الثاني ) :  ما نسخ حكمه ورسمه ، وثبت حكم الناسخ ورسمه   ، كنسخ استقبال  بيت المقدس ،   باستقبال  الكعبة   ونسخ صيام عاشوراء بصيام رمضان .  
 [ ص: 550 ] قال   أبو إسحاق المروزي     : ومنهم من جعل القبلة من نسخ السنة بالقرآن ، وزعم أن استقبال  بيت المقدس   بالسنة لا بالقرآن .  
( الثالث ) :  ما نسخ حكمه وبقي رسمه ، ورفع رسم الناسخ ، وبقي حكمه   ، كقوله تعالى :  فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا   بقوله تعالى : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله ، وقد ثبت في الصحيح أن هذا كان قرآنا يتلى ، ثم نسخ لفظه وبقي حكمه .  
 [ ص: 551 ]    ( الرابع ) :  ما نسخ حكمه ورسمه ، ونسخ رسم الناسخ وبقي حكمه   ، كما ثبت في الصحيح  عن  عائشة  أنها قالت : " كان فيما أنزل عشر رضعات متتابعات يحرمن ، فنسخن بخمس رضعات ، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهن فيما يتلى من القرآن     .  
قال  البيهقي     : فالعشر مما نسخ رسمه وحكمه ، والخمس مما نسخ رسمه وبقي حكمه ، بدليل أن الصحابة حين جمعوا القرآن لم يثبتوها رسما ، وحكمها باق عندهم .  
قال ابن السمعاني وقولها : " وهن مما يتلى من القرآن " بمعنى أنه يتلى حكمه دون لفظه .  
وقال  البيهقي     : المعنى أنه يتلوه من لم يبلغه نسخ تلاوته .  
ومنع قوم من نسخ اللفظ مع بقاء حكمه ، وبه جزم شمس الأئمة السرخسي ; لأن الحكم لا يثبت بدون دليله ، ولا وجه لذلك ، فإن الدليل ثابت موجود محفوظ ، ونسخ كونه قرآنا لا يستلزم عدم وجوده ، ولهذا رواه الثقات في مؤلفاتهم .  
( الخامس ) :  ما نسخ رسمه لا حكمه ، ولا يعلم الناسخ له   ، وذلك كما ثبت في الصحيح .  لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب     .  
فإن هذا كان قرآنا ثم نسخ رسمه .  
قال   ابن عبد البر  في التمهيد : قيل : إنه في سورة ص .  
 [ ص: 552 ] وكما ثبت في الصحيح أيضا أنه نزل في القرآن حكاية عن  أهل  بئر معونة    أنهم قالوا : بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا .  
وكما أخرجه  الحاكم  في مستدركه من حديث   زر بن حبيش  عن   أبي بن كعب  عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قرأ عليه  لم يكن الذين كفروا   وقرأ فيها "  إن ذات الدين عند الله الحنيفية ، لا اليهودية ولا النصرانية ، ومن يعمل خيرا فلن يكفر     " قال  الحاكم     : صحيح الإسناد فهذا مما نسخ لفظه وبقي معناه .  
وعده   ابن عبد البر  في التمهيد مما نسخ خطه وحكمه ، وحفظه ( ينسى مع رفع خطه من المصحف ، وليس حفظه على وجه التلاوة ، ولا يقطع بصحته عن الله ، ولا يحكم به اليوم أحد ) قال : ومنه قول من قال : إن سورة الأحزاب كانت نحو سورة البقرة .  
 [ ص: 553 ]    ( السادس ) :  ناسخ صار منسوخا ، وليس بينهما لفظ متلو   ، كالمواريث بالحلف والنصرة ، فإنه نسخ التوارث بالإسلام والهجرة ، ونسخ التوارث بالإسلام والهجرة بآية المواريث .  
قال  ابن السمعاني     : وعندي أن القسمين الأخيرين تكلف ، وليس يتحقق فيهما النسخ .  
وجعل   أبو إسحاق المروزي  التوريث بالهجرة من قسم ما علم أنه منسوخ ، ولم يعلم ناسخه .  
والحاصل : أن نسخ التلاوة دون الحكم ، أو الحكم دون التلاوة ، أو نسخهما معا لم يمنع منه مانع شرعي ولا عقلي ، فلا وجه للمنع منه ; لأن جواز تلاوة الآية حكم من أحكامها ، وما تدل عليه الأحكام حكم آخر لها ، ولا تلازم بينهما ، وإذا ثبت ذلك فيجوز نسخهما ، ونسخ أحدهما ، كسائر الأحكام المتباينة .  
ولنا أيضا الوقوع ، وهو دليل الجواز ، كما عرفت مما أوردناه .  
				
						
						
