الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 513 ] الفصل الثاني

                        فيما يدخله التأويل

                        وهو قسمان : ( أحدهما ) : أغلب الفروع ، ولا خلاف في ذلك .

                        ( والثاني ) : الأصول ؛ كالعقائد ، وأصول الديانات ، وصفات الباري عز وجل . وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلاثة مذاهب .

                        ( الأول ) : أنه لا مدخل للتأويل فيها ، بل يجري على ظاهرها ، ولا يؤول شيء منها ، وهذا قول المشبهة .

                        ( والثاني ) : أن لها تأويلا ، ولكنا نمسك عنه ، مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل لقوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله قال ابن برهان وهذا قول السلف .

                        ( قلت ) : وهذا هو الطريقة الواضحة ، والمنهج المصحوب بالسلامة عن الوقوع في مهاوي التأويل ، لما لا يعلم تأويله إلا الله ، وكفى بالسلف الصالح قدوة لمن أراد الاقتداء وأسوة لمن أحب التأسي على تقدير عدم ورود الدليل القاضي بالمنع من ذلك فكيف وهو قائم موجود في الكتاب والسنة .

                        ( والمذهب الثالث ) : أنها مؤولة ، قال ابن برهان : والأول من هذه المذاهب باطل ، والآخران منقولان عن الصحابة ، ونقل هذا المذهب الثالث عن علي وابن عباس وابن مسعود وأم سلمة .

                        قال أبو عمرو بن الصلاح : الناس في هذه الأشياء الموهمة للجهة ونحوها فرق ثلاث :

                        ففرقة تؤول ، وفرقة تشبه ، وثالثة ترى أنه لم يطلق الشارع مثل هذه اللفظة إلا وإطلاقه سائغ وحسن قبولها مطلقة ، كما قال مع التصريح بالتقديس والتنزيه ، والتبري من التحديد والتشبيه ، قال : وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها ( وإياها ) [ ص: 514 ] اختارها أئمة الفقهاء وقادتها ، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ، ولا أحد من المتكلمين يصدف عنها ويأباها ، وأفصح الغزالي في غير موضع بتهجير ما سواها ، حتى ألجم آخرا في إلجامه كل عامل وعامي عما عداها . قال وهو كتاب " إلجام العوام عن علم الكلام " وهو آخر تصانيف الغزالي مطلقا ، حث فيه على مذهب السلف ومن تبعهم .

                        قال الذهبي في النبلاء في ترجمة فخر الدين الرازي ما لفظه : " وقد اعترف في آخر عمره حيث يقول لقد تأملت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ، ولا تروي غليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، اقرأ في الإثبات الرحمن على العرش استوى ، إليه يصعد الكلم الطيب واقرأ في النفي ليس كمثله شيء ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي . انتهى .

                        وذكر الذهبي في النبلاء في ترجمة إمام الحرمين الجويني أنه قال : ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل ، وإجراء الظواهر على مواردها ، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى ، والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة .

                        هكذا نقل عنه صاحب النبلاء في ترجمته ، وقال في موضع آخر في ترجمته في النبلاء إنه قال ما لفظه : " اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السلف " انتهى .

                        وهؤلاء الثلاثة أعني : الجويني والغزالي والرازي هم الذين وسعوا دائرة التأويل ، وطولوا ذيوله ، وقد رجعوا آخرا إلى مذهب السلف كما عرفت ، فلله الحمد كما هو له أهل .

                        وقال ابن دقيق العيد : ونقول في الألفاظ المشكلة إنها حق وصدق ، وعلى الوجه الذي أراده الله ، ومن أول شيئا منها ، فإن كان تأويله قريبا على ما يقتضيه لسان العرب ، وتفهمه في مخاطباتهم لم ننكر عليه ، ولم نبدعه ، وإن كان تأويله بعيدا توقفنا عنه واستبعدناه ، ورجعنا إلى القاعدة في الإيمان بمعناه ، مع التنزيه ، وقد تقدمه إلى [ ص: 515 ] مثل هذا ابن عبد السلام كما حكاه عنهما الزركشي في البحر والكلام في هذا يطول ; لما فيه من كثرة النقول عن الأئمة الفحول .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية