الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 703 ] الذريعة : هي المسألة التي ظاهرها الإباحة ، ويتوصل بها إلى فعل المحظور .

                        قال الباجي ذهب مالك إلى المنع من الذرائع .

                        وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يجوز منعها .

                        استدل المانع بمثل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقوله : واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر وما صح عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - من قوله لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها .

                        وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

                        وقوله : الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات ، والمؤمنون وقافون عند الشبهات .

                        [ ص: 704 ] وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه .

                        قال القرطبي : سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه ، وخالفه أكثر الناس تأصيلا ، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلا ، ثم قرر موضع الخلاف فقال : اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع ( في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع ) قطعا أو لا ، الأول ليس في هذا الباب ، بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ، ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

                        والذي لا يلزم ، إما أن يفضي إلى المحظور غالبا ، أو ينفك عنه غالبا ، أو يتساوى الأمران ، وهو المسمى بالذرائع عندنا ، فالأول لا بد من مراعاته ، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه ، فمنهم من يراعيه ، ( ومنهم من لا يراعيه ) . وربما يسميه التهمة البعيدة ، والذرائع الضعيفة .

                        قال القرافي : مالك لم ينفرد بذلك ، بل كل أحد يقول بها ، ولا خصوصية للمالكية بها ، إلا من حيث زيادتهم فيها .

                        قال : فإن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع ، كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين ، وإلقاء السم في طعامهم ، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله .

                        ومنها ما هو ملغى إجماعا ، كزراعة العنب ، فإنها لا تمنع خشية الخمر ، وإن كانت وسيلة إلى المحرم .

                        ومنها ما هو مختلف فيه ، كبيوع الآجال ، فنحن نعتبر الذريعة فيها ، وخالفنا غيرنا في أصل القضية ، أنا قلنا بسد الذرائع ، أكثر من غيرنا ، لا أنها خاصة بنا .

                        قال : وبهذا تعلم بطلان استدلال أصحابنا على الشافعية في هذه المسألة بقوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله وقوله : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقد ذمهم بكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرم عليهم ، لحبس الصيد يوم الجمعة .

                        [ ص: 705 ] وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم الحديث . وبالإجماع على جواز البيع والسلف مفترقين ، وتحريمهما مجتمعين للذريعة إلى الربا ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تقبل شهادة خصم وظنين خشية الشهادة بالباطل ، ومنع شهادة الآباء للأبناء . قال : وإنما قلنا إن هذه الأدلة لا تفيد في محل النزاع ; لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة ، وهذا أمر مجمع عليه ، وإنما النزاع في ذريعة خاصة ، وهو بيوع الآجال ونحوها ، فينبغي أن يذكروا أدلة خاصة بمحل النزاع ، وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها ، فينبغي أن تكون حجتهم القياس ، وحينئذ فليذكروا الجامع ، حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ، وهم لا يعتقدون أن دليلهم القياس .

                        قال : بل من أدلة محل النزاع حديث زيد بن أرقم أن أمة قالت لعائشة : إني بعت منه عبدا بثمانمائة إلى العطاء ، واشتريته منه نقدا بستمائة ، فقالت عائشة : بئسما اشتريت وأخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا أن يتوب .

                        [ ص: 706 ] قال أبو الوليد بن رشد : وهذه المبايعة كانت بين أم ولد زيد بن أرقم ومولاها قبل العتق ، فيخرج قول عائشة على تحريم الربا بين السيد وعبده ، مع القول بتحريم هذه الذرائع ، ولعل زيدا لا يعتقد تحريم الربا بين السيد وعبده .

                        قال الزركشي : وأجاب أصحابنا عن ذلك بأن عائشة إنما قالت ذلك باجتهادها ، واجتهاد واحد من الصحابة لا يكون حجة على الآخر بالإجماع ، ثم قولها معارض بفعل زيد بن أرقم ، ثم إنها أنكرت ذلك ; لفساد التعيين ، فإن الأول فاسد بجهالة الأجل ، فإن وقت العطاء غير معلوم ، والثاني بناء على الأول فيكون فاسدا .

                        قال ابن الرفعة : الذريعة ثلاثة أقسام :

                        ( أحدها ) : ما يقطع بتوصيله إلى الحرام ، فهو حرام عندنا وعندهم ، يعني عند الشافعية والمالكية .

                        ( والثاني ) : ما يقطع بأنه لا يوصل ، ولكن اختلط بما يوصل ، فكان من الاحتياط سد الباب ، وإلحاق الصورة النادرة ، التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه ، وهذا غلو في القول بسد الذرائع .

                        ( والثالث ) : ما يحتمل ويحتمل ، وفيه مراتب متفاوتة ويختلف الترجيح عندهم بسبب تفاوتها .

                        قال : ونحن نخالفهم ( في جميعها ) إلا القسم الأول ; لانضباطه وقيام الدليل عليه انتهى .

                        ومن أحسن ما يستدل به على هذا الباب ما قدمنا ذكره من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ألا وإن حمى الله معاصيه ، فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه وهو حديث صحيح .

                        ويلحق به ما قدمنا ذكره من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وهو حديث صحيح أيضا ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : الإثم ما [ ص: 707 ] حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس وهو حديث حسن ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : استفت قلبك وإن أفتاك المفتون وهو حديث حسن أيضا .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية