[ ص: 703 ] الذريعة : هي المسألة التي ظاهرها الإباحة ، ويتوصل بها إلى فعل المحظور .
قال الباجي ذهب مالك إلى المنع من الذرائع .
وقال أبو حنيفة ، : لا يجوز منعها . والشافعي
استدل المانع بمثل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقوله : واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر وما صح عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - من قوله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها . لعن الله
وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : . دع ما يريبك إلى ما لا يريبك
وقوله : ، والمؤمنون وقافون عند الشبهات . الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات
[ ص: 704 ] وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : . من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه
قال القرطبي : ذهب إليه سد الذرائع مالك وأصحابه ، وخالفه أكثر الناس تأصيلا ، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلا ، ثم قرر موضع الخلاف فقال : اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع ( في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع ) قطعا أو لا ، الأول ليس في هذا الباب ، بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ، ففعله حرام من باب . ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
والذي لا يلزم ، إما أن يفضي إلى المحظور غالبا ، أو ينفك عنه غالبا ، أو يتساوى الأمران ، وهو المسمى بالذرائع عندنا ، فالأول لا بد من مراعاته ، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه ، فمنهم من يراعيه ، ( ومنهم من لا يراعيه ) . وربما يسميه التهمة البعيدة ، والذرائع الضعيفة .
قال القرافي : مالك لم ينفرد بذلك ، بل كل أحد يقول بها ، ولا خصوصية للمالكية بها ، إلا من حيث زيادتهم فيها .
قال : فإن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع ، كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين ، وإلقاء السم في طعامهم ، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله .
ومنها ما هو ملغى إجماعا ، كزراعة العنب ، فإنها لا تمنع خشية الخمر ، وإن كانت وسيلة إلى المحرم .
ومنها ما هو مختلف فيه ، كبيوع الآجال ، فنحن نعتبر الذريعة فيها ، وخالفنا غيرنا في أصل القضية ، أنا قلنا بسد ، أكثر من غيرنا ، لا أنها خاصة بنا . الذرائع
قال : وبهذا تعلم بطلان استدلال أصحابنا على الشافعية في هذه المسألة بقوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله وقوله : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقد ذمهم بكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرم عليهم ، لحبس الصيد يوم الجمعة .
[ ص: 705 ] وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : اليهود ، حرمت عليهم الشحوم الحديث . وبالإجماع على جواز البيع والسلف مفترقين ، وتحريمهما مجتمعين للذريعة إلى الربا ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : لعن الله لا تقبل شهادة خصم وظنين خشية الشهادة بالباطل ، ومنع شهادة الآباء للأبناء . قال : وإنما قلنا إن هذه الأدلة لا تفيد في محل النزاع ; لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة ، وهذا أمر مجمع عليه ، وإنما النزاع في ذريعة خاصة ، وهو بيوع الآجال ونحوها ، فينبغي أن يذكروا أدلة خاصة بمحل النزاع ، وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها ، فينبغي أن تكون حجتهم القياس ، وحينئذ فليذكروا الجامع ، حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ، وهم لا يعتقدون أن دليلهم القياس .
قال : بل من أدلة محل النزاع حديث أن أمة قالت زيد بن أرقم لعائشة : إني بعت منه عبدا بثمانمائة إلى العطاء ، واشتريته منه نقدا بستمائة ، فقالت عائشة : بئسما اشتريت وأخبري أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا أن يتوب . زيد بن أرقم
[ ص: 706 ] قال أبو الوليد بن رشد : وهذه المبايعة كانت بين أم ولد ومولاها قبل العتق ، فيخرج قول زيد بن أرقم عائشة على تحريم الربا بين السيد وعبده ، مع القول بتحريم هذه الذرائع ، ولعل زيدا لا يعتقد تحريم الربا بين السيد وعبده .
قال الزركشي : وأجاب أصحابنا عن ذلك بأن عائشة إنما قالت ذلك باجتهادها ، واجتهاد واحد من الصحابة لا يكون حجة على الآخر بالإجماع ، ثم قولها معارض بفعل ، ثم إنها أنكرت ذلك ; لفساد التعيين ، فإن الأول فاسد بجهالة الأجل ، فإن وقت العطاء غير معلوم ، والثاني بناء على الأول فيكون فاسدا . زيد بن أرقم
قال ابن الرفعة : : الذريعة ثلاثة أقسام
( أحدها ) : ما يقطع بتوصيله إلى الحرام ، فهو حرام عندنا وعندهم ، يعني عند الشافعية والمالكية .
( والثاني ) : ما يقطع بأنه لا يوصل ، ولكن اختلط بما يوصل ، فكان من الاحتياط سد الباب ، وإلحاق الصورة النادرة ، التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه ، وهذا غلو في القول بسد الذرائع .
( والثالث ) : ما يحتمل ويحتمل ، وفيه مراتب متفاوتة ويختلف الترجيح عندهم بسبب تفاوتها .
قال : ونحن نخالفهم ( في جميعها ) إلا القسم الأول ; لانضباطه وقيام الدليل عليه انتهى .
ومن أحسن ما يستدل به على هذا الباب ما قدمنا ذكره من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : وهو حديث صحيح . ألا وإن حمى الله معاصيه ، فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه
ويلحق به ما قدمنا ذكره من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : وهو حديث صحيح أيضا ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وهو حديث حسن ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : الإثم ما [ ص: 707 ] حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس وهو حديث حسن أيضا . استفت قلبك وإن أفتاك المفتون