الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        وإذا عرفت هذا ، فالمجتهد : هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي ، ولا بد أن يكون بالغا عاقلا ، قد ثبتت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها ، وإنما يتمكن من ذلك بشروط :

                        ( الأول ) : أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة ، فإن قصر في أحدهما لم يكن مجتهدا ، ولا يجوز له الاجتهاد ، ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة ، بل بما يتعلق منهما بالأحكام .

                        قال الغزالي ، وابن العربي : والذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية ، [ ص: 717 ] ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر ; للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك ، بل من له فهم صحيح ، وتدبر كامل ، يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال .

                        قيل : ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات ، لا بطريق التضمن والالتزام .

                        وقد حكى الماوردي عن بعض أهل العلم أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية .

                        قال الأستاذ أبو منصور : يشترط معرفة ما يتعلق بحكم الشرع ، ولا يشترط معرفة ما فيها من القصص والمواعظ .

                        واختلفوا في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة ، فقيل : خمسمائة حديث وهذا من أعجب ما يقال ، فإن الأحاديث التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة .

                        وقال ابن العربي في المحصول : هي ثلاثة آلاف .

                        وقال أبو علي الضرير : قلت لأحمد بن حنبل : كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي ، يكفيه مائة ألف ؟ قال : لا . قلت : ( مائتا ألف ؟ قال : لا قلت : ) ثلاثمائة ألف ؟ قال : لا . قلت : أربعمائة ألف ؟ قال : لا . قلت : [ ص: 718 ] خمسمائة ألف ؟ قال : أرجو .

                        قال بعض أصحابه : هذا محمول على الاحتياط ، والتغليظ في الفتيا ، أو يكون أراد وصف أكمل الفقهاء ، فأما ما لا بد منه ، فقد قال أحمد رحمه الله : الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ينبغي أن تكون ألفا ومائتين .

                        قال أبو بكر الرازي : لا يشترط استحضار جميع ما ورد في ذلك الباب ، إذ لا يمكن الإحاطة به ، ولو تصور لما حضر في ذهنه عند الاجتهاد جميع ما روى .

                        وقال الغزالي ، وجماعة من الأصوليين : يكفيه أن يكون عنده أصل يجمع أحاديث الأحكام ، كسنن أبي داود ، ومعرفة السنن للبيهقي ، أو أصل وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الأحكام ، ويكتفى فيه بمواقع كل باب ، فيراجعه وقت الحاجة ، وتبعه على ذلك الرافعي ، ونازعه النووي وقال : لا يصح التمثيل بسنن أبي داود ، فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ، ولا معظمها وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود ، وكذا قال ابن دقيق العيد في شرح العنوان : التمثيل بسنن أبي داود ليس بجيد عندنا لوجهين :

                        ( الأول ) : أنها لا تحوي السنن المحتاج إليها .

                        ( الثاني ) : أن في بعضها ما لا يحتج به في الأحكام انتهى .

                        ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هذا الباب بعضه من قبيل الإفراط ، وبعضه من قبيل التفريط ، والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن المجتهد لا بد أن يكون عالما بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن ، كالأمهات الست وما يلتحق بها مشرفا على ما اشتملت عليه المسانيد ، والمستخرجات ، والكتب التي التزم مصنفوها الصحة ، ولا يشترط في هذا أن تكون محفوظة له ، مستحضرة في ذهنه ، بل أن يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها ، بالبحث عنها عند الحاجة إلى ذلك ، وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها ، والحسن ، والضعيف ، بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة ، [ ص: 719 ] وليس من شرط ذلك أن يكون حافظا لحال الرجال عن ظهر قلب ، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال ، مع كونه ممن له معرفة تامة ، بما يوجب الجرح ، وما لا يوجبه من الأسباب ، وما هو مقبول منها ، وما هو مردود ، وما هو قادح من العلل ، وما هو غير قادح .

                        ( الشرط الثاني ) : أن يكون عارفا بمسائل الإجماع ، حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه ، إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي ، وقل أن يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ما وقع عليه الإجماع من المسائل .

                        ( الشرط الثالث ) : أن يكون عالما بلسان العرب ، بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه ، ولا يشترط أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب ، بل المعتبر أن يكون متمكنا من استخراجها من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك ، وقد قربوها أحسن تقريب ، وهذبوها أبلغ تهذيب ، ورتبوها على حروف المعجم ترتيبا لا يصعب الكشف عنه ، ولا يبعد الاطلاع عليه ، وإنما يتمكن من معرفة معانيها ، وخواص تراكيبها ، وما اشتملت عليه من لطائف المزايا من كان عالما بعلم النحو ، والصرف ، والمعاني ، والبيان ، حتى ثبت له في كل فن من هذه الفنون ملكة ، يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه ، فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظرا صحيحا ، ويستخرج منه الأحكام استخراجا قويا .

                        ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة ( مختصر من ) مختصراتها ، أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها ; فقد أبعد ، بل الاستكثار من الممارسة لها ، والتوسع في الاطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث ، وبصرا في الاستخراج ، وبصيرة في حصول مطلوبه .

                        والحاصل : " أنه لا بد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم ، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة ، وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن .

                        قال الإمام الشافعي : يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه .

                        قال الماوردي : ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره .

                        [ ص: 720 ] ( الشرط الرابع ) : أن يكون عالما بعلم أصول الفقه ، لاشتماله على ( ما تمس ) الحاجة إليه ، وعليه أن يطول الباع فيه ، ويطلع على مختصراته ، ومطولاته ، بما تبلغ إليه طاقته ، فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد ، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه ، وعليه أيضا أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظرا يوصله إلى ما هو الحق فيها ، فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها ، بأيسر عمل ، وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد ، وخبط فيه وخلط .

                        قال الفخر الرازي في المحصول : وما أحسن ما قال : إن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه انتهى . قال الغزالي : إن أعظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون : الحديث ، واللغة ، وأصول الفقه .

                        ( الشرط الخامس ) : أن يكون عارفا بالناسخ والمنسوخ ، بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك ، مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ .

                        وقد اختلفوا في اشتراط العلم بالدليل العقلي ، فشرطه جماعة منهم الغزالي ، والفخر الرازي ، ولم يشترط الآخرون ، وهو الحق ; لأن الاجتهاد إنما يدور على الأدلة الشرعية ، لا على الأدلة العقلية ، ومن جعل العقل حاكما فهو لا يجعل ما حكم به داخلا في مسائل الاجتهاد .

                        واختلفوا أيضا في اشتراط علم أصول الدين ، فمنهم من اشترط ذلك ، وإليه ذهب المعتزلة ، ومنهم من لم يشترط ذلك ، وإليه ذهب الجمهور .

                        ومنهم من فصل ، فقال : يشترط العلم بالضروريات ، كالعلم بوجود الرب سبحانه وصفاته وما يستحقه والتصديق ( بالرسول وما جاء به ) .

                        ولا يشترط علمه بدقائقه وإليه ذهب الآمدي .

                        واختلفوا أيضا في اشتراط علم الفروع ، فذهب جماعة منهم الأستاذ أبو إسحاق ، والأستاذ أبو منصور إلى اشتراطه ، واختاره الغزالي وقال : إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسته فهو طريق لتحصيل الدربة في هذا الزمان .

                        [ ص: 721 ] وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه ، قالوا : وإلا لزم الدور ، وكيف يحتاج إليها ، وهو الذي يولدها ، بعد حيازته لمنصب الاجتهاد .

                        وقد جعل قوم من جملة علوم الاجتهاد علم الجرح والتعديل ، وهو كذلك ، ولكنه مندرج تحت العلم بالسنة ، فإنه لا يتم العلم بها بدونه كما قدمنا .

                        وجعل قوم من جملة علوم الاجتهاد معرفة القياس بشروطه وأركانه ، قالوا : لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ، ومنه يتشعب الفقه ، وهو كذلك ، ولكنه مندرج تحت علم " أصول الفقه " فإنه باب من أبوابه ، وشعبة من شعبه .

                        [ المجتهد فيه ]

                        وإذا عرفت معنى الاجتهاد ، والمجتهد ، فاعلم أن المجتهد فيه : هو الحكم الشرعي العلمي .

                        قال في المحصول : المجتهد فيه : هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع ، واحترزنا [ ص: 722 ] بالشرعي عن العقليات ، ومسائل الكلام .

                        وبقولنا : ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس ، والزكاة ، وما اتفق عليه الأئمة من جليات الشرع .

                        قال أبو الحسين البصري : المسألة الاجتهادية هي التي اختلف فيها المجتهدون ، من الأحكام الشرعية ، وهذا ضعيف ; لأن جواز اختلاف المجتهدين مشروط بكون المسألة اجتهادية ، فلو عرفنا كونها اجتهادية باختلافهم فيها لزم الدور .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية