فذهب الأكثر إلى جوازه ووقوعه ، واختاره جماعة من المحققين ، منهم القاضي . ومنهم من منع ذلك ، كما روي عن أبي علي ، وأبي هاشم .
ومنهم من فصل بين الغائب والحاضر ، فأجازه لمن غاب عن حضرته - صلى الله عليه وآله وسلم ، كما وقع في حديث معاذ ، دون من كان بحضرته الشريفة - صلى الله عليه وآله وسلم ، واختاره ، الغزالي وابن الصباغ ، ونقله إلكيا عن أكثر الفقهاء ، والمتكلمين ، ومال إليه إمام الحرمين .
قال : إنه الأقوى على أصول أصحابهم . القاضي عبد الوهاب
قال : بشرط تقريره عليه . ابن فورك
وقال : إن كان ابن حزم - في الأحكام ، كإيجاب شيء ، أو تحريمه ، فلا يجوز ، كما وقع من اجتهاد الصحابي في عصره - صلى الله عليه وآله وسلم أبي السنابل من الإفتاء باجتهاده في الحامل ، المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر ، فأخطأ [ ص: 734 ] في ذلك ، وإن كان اجتهاده في غير ذلك فيجوز ، كاجتهادهم فيما يجعلونه علما للدعاء إلى الصلاة ; لأنه لم يكن فيه إيجاب شريعة تلزم .
وكاجتهاد قوم بحضرته - صلى الله عليه وآله وسلم - فيمن هم السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة ووجوههم كالقمر ليلة البدر ، فأخطئوا في ذلك ، وبين لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من هم ، ولم يعنفهم في اجتهادهم .
ومنهم من قال : وقع ظنا لا قطعا ، واختاره ، الآمدي وابن الحاجب .
ومنهم من قال : إنه يجوز للحاضر في مجلس النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يجتهد ، إذا أمره بذلك ، كما وقع منه - صلى الله عليه وآله وسلم - من أمره أن يحكم في لسعد بن معاذ بني قريظة ، وإن لم يأمره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يجز له الاجتهاد ، إلا أن يجتهد ويعلم به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيقرره عليه ، [ ص: 735 ] كما وقع من أبي بكر رضي الله عنه في سلب القتيل ، فإنه قال : " لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله ، فيعطيك سلبه " فقرره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ( وكذلك امتناع علي - رضي الله عنه - من محو اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحيفة ) .
والحق ما تقدم من التفصيل بين من كان بحضرته - صلى الله عليه وآله وسلم - ( فلا يجوز له الاجتهاد ; لتعين السؤال منه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ) فيما نابه من الأمر ، وبين من كان غائبا عنها ، فيجوز له الاجتهاد .
وقد وقع من ذلك واقعات متعددة ، كما من صلاته بأصحابه ، وكان جنبا ولم يغتسل ، بل تيمم وقال : سمعت الله تعالى يقول : عمرو بن العاص ولا تقتلوا أنفسكم فقرره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على ذلك . وقع من
[ ص: 736 ] وكما وقع منه - صلى الله عليه وآله وسلم - من الأمر بالنداء يوم انصرافه من الأحزاب بأنه لا يصلين أحد إلا في بني قريظة فتخوف ناس من فوت الوقت ، فصلوا دون بني قريظة ، وقال آخرون : لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن فات الوقت ، فما عنف أحدا من الفريقين .
ومن أدل ما يدل على هذا التفصيل : تقرير معاذ على اجتهاد رأيه لما بعثه إلى اليمن ، وهو حديث مشهور ، له طرق متعددة ، ينتهض مجموعها للحجية ، كما أوضحنا ذلك في مجموع مستقل .
ومنه بعثه - صلى الله عليه وآله وسلم - لعلي قاضيا ، فقال : لا علم لي بالقضاء ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخرجه اللهم اهد قلبه وثبت لسانه أبو داود والنسائي ، وابن ماجه والحاكم في المستدرك .
ومن ذلك ما رواه أحمد في المسند : عليا يختصمون في الولد فأقرع بينهم ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : لا أعلم فيها إلا ما قال علي وإسناده صحيح وأمثال هذا كثير . أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر ، فأتوا
قال في المحصول : الخلاف في هذه المسألة لا ثمرة له في الفقه . الفخر الرازي
وقد اعترض عليه ذلك ، ولا وجه للاعتراض ; لأن الاجتهاد الواقع من الصحابي إن قرره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان حجة وشرعا بالتقدير ، لا باجتهاد الصحابي ، وإن لم يبلغه كان اجتهاد الصحابي فيه الخلاف المتقدم في قول الصحابي ، [ ص: 737 ] عند من قال بجوازه في عصره - صلى الله عليه وآله وسلم - ( لا عند من منع منه ، وإن بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وأنكره ، أو قال بخلافه ، فليس في ذلك الاجتهاد فائدة ; لأنه قد بطل بالشرع .