. القضاء والقدر أربع مراتب
والقضاء والقدر عندهم أربع مراتب ، جاء بها نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وأخبر بها عن ربه تعالى :
( الأول ) : علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم .
( الثانية ) : كتابته ذلك في الذكر عنده قبل خلق السماوات والأرض .
[ ص: 951 ] ( الثالثة ) : مشيئتة المتناولة لكل موجود ، فلا خروج لكائن عن مشيئته ، كما لا خروج له عن علمه .
( الرابعة ) : خلقه له وإيجاده وتكوينه ، فإنه لا خالق إلا الله ، والله خالق كل شيء ، فالخالق عندهم واحد وما سواه فمخلوق ، ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق ، ويؤمنون مع ذلك بحكمته وأنه حكيم في كل ما فعله وخلقه ، وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة ، هي التي اقتضت صدور ذلك وخلقه ، وأن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته ، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره ، كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها ، بل هي أمر وراء ذلك ، وهي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده ، ولأجلها خلق فسوى ، وقدر فهدى ، وأمات وأحيا ، وأسعد وأشقى ، وأضل وهدى ، ومنع وأعطى ، وهذه الحكمة هي الغاية والفعل وسيلة إليها ، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفي للغايات ، وهو محال ، إذ نفي الغاية مستلزم لنفي الوسيلة ، فنفي الوسيلة وهي الفعل لازم لنفي الغاية وهي الحكمة ، ونفي قيام الفعل والحكمة به نفي لهما في الحقيقة ، إذ فعل لا يقوم بفاعله وحكمة لا تقوم بالحكيم شيء لا يعقل ، وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته ، وهذا لازم لمن نفى ذلك ولا محيد له عنه وإن أبى التزامه ، وأما من أثبت حكمته تعالى وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة ولما جاءت به الرسل ، لم يلزم من قوله محذور البتة ، بل قوله حق ، ولازم الحق حق كائنا ما كان .
والمقصود أن ورثة الرسل وخلفاءهم لكمال ميراثهم لنبيهم آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة في أفعال الرب تعالى وأوامره ، وقاموا مع ذلك بالأمر والنهي وصدقوا بالوعد والوعيد ، فآمنوا بالخالق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة ، وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب ، فصدقوا بالخلق والأمر ، ولم ينفوهما بنفي لوازمهما ، كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر ، وكانوا أسعد الناس بالحق وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبوي ، [ ص: 952 ] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم . انتهى ما سقنا من كلامه - رحمه الله تعالى - وقد بسط الكلام قبل ذلك وبعده فشفى وكفى ، رحمه الله تعالى .
والمقصود أن الإيمان بالقدر مرتبط بامتثال الشرع ، وامتثال الشرع مرتبط بالإيمان بالقدر ، وانفكاك أحدهما من الآخر محال ، فإن الإقرار بالقدر مع الاحتجاج به على الشرع ومحاربته به مخاصمة لله تعالى في أمره وشرعه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه ، وطعن في حكمته وعدله ، وانتقاد عليه في إرسال الرسل وإنزال الكتب ، وخلق الجنة لأوليائه المصدقين بها ، وخلق النار لأعدائه المكذبين ، ونسبة لأحكم الحاكمين وأعدل العادلين ، الحكيم في خلقه وشرعه ، العدل في قوله وفعله وحكمه ، إلى العبث والظلم في ذلك كله .
وكذلك الانقياد في الشرع مع نفي القدر ، وإخراج أفعال العباد عن قدرة الباري ، وجعلهم مستقلين بها مستغنين عنه طعن في ربوبية المعبود وملكوته ، ونسبته إلى العجز ووصفه بما لا يستحق الإلهية ، ولا يتصف بها مما لا يبدئ ولا يعيد ولا يغني عنك شيئا ، تعالى ربنا وتقدس وتنزه وجل وعلا عما يقول الظالمون الجاحدون الملحدون علوا كبيرا ، بل الإيمان بالقدر خيره وشره هو نظام التوحيد ، كما أن الإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره ، وتحجز عن شره ، واستعانة الله عليها هو نظام الشرع ، ولا ينتظم أمر الدين ولا يستقيم إلا لمن آمن بالقدر وامتثل الشرع ، كما . قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بالقدر ، ثم قال لما قيل له : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ قال : لا ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له
فمن نفى القدر رغم منافاته للشرع ، فقد عطل الله تعالى عن علمه وقدرته ومعاني ربوبيته ، وجعل العبد مستقلا بأفعاله خالقا لها ، فأثبت خالقا مع الله [ ص: 953 ] تعالى ، بل أثبت أن جميع المخلوقين خالقون ، ومن أثبته محتجا به على الشرع محاربا له به نافيا عن العبد قدرته واختياره التي منحه الله تعالى إياها ، وأمره ونهاه وأخبره بحسبها ، زاعما أن الله تعالى كلف عباده ما لا يطاق ، فقد نسب الله تعالى إلى الظلم وإلى العبث وإلى ما لا يليق به ، ورجح حجة إبليس وأثبتها وأقام عذره ، وكان هو إمامه في ذلك إذ يقول : ( رب بما أغويتني ) ، ( الأعراف 16 ) ، وأما المؤمنون حقا فيؤمنون بالقدر خيره وشره ، وأن الله تعالى خالق ذلك كله لا خالق غيره ولا رب سواه ، وينقادون للشرع أمره ونهيه ، ويصدقون خبر الكتاب والرسول ، ويحكمونه في أنفسهم سرا وجهرا ، وأن الهداية والإضلال بيد الله ، يهدي من يشاء بفضله ورحمته ، ويضل من يشاء بعدله وحكمته ، وهو أعلم بمواقع فضله وعدله ( هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) ، ( النجم 30 ) وله في ذلك الحكمة البالغة والحجة الدامغة ، وأن الثواب والعقاب مترتب على الشرع فعلا وتركا ، لا على القدر ، ويعزون أنفسهم بالقدر عند المصائب ، ولا يحتجون به على المعاصي والمعايب ، فإذا وفقوا لحسنة ، عرفوا الحق لأهله ، فقالوا : الحمد لله الذي هدانا سبلنا ( وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) ، ( الأعراف 43 ) ولم يقولوا كما قال الفاجر : ( إنما أوتيته على علم عندي ) ، ( القصص 78 ) ، وإذا اقترفوا سيئة باءوا بذنبهم وأقروا به ، وقالوا كما قال الأبوان ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) ، ( الأعراف 23 ) ولم يحملوا ذنبهم وظلمهم على القدر ويحتجوا به عليه ، ولم يقولوا كما قال إبليس - لعنه الله : ( رب بما أغويتني ) ، ( الأعراف 16 ) ، وإذا أصابتهم مصيبة رضوا بقضاء الله وقدره ، واستسلموا لتصرف ربهم ومالكهم - تبارك وتعالى - وقالوا كلمة الصابرين ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) ، ( البقرة 156 ) ، ولم يقولوا كما قال الذين كفروا ( وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ) ، ( آل عمران 156 )