الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      الكلام على الطيرة والتطير والغول .

      وأما الطيرة ، فهي ترك الإنسان حاجته ، واعتقاده عدم نجاحها ، تشاؤما بسماع بعض الكليمات القبيحة ، كيا هالك أو يا ممحوق ونحوها . وكذا التشاؤم ببعض الطيور كالبومة وما شاكلها إذا صاحت .

      قالوا : إنها ناعبة أو مخبرة بشر ، وكذا التشاؤم بملاقاة الأعور أو الأعرج أو المهزول أو الشيخ الهرم أو العجوز الشمطاء ، وكثير من الناس إذا لقيه وهو ذاهب لحاجة ، صده ذلك عنها ، ورجع معتقدا عدم نجاحها ، وكثير من أهل البيع لا يبيع ممن هذه صفته إذا جاءه أول النهار ، حتى يبيع من غيره تشاؤما به وكراهة له ، وكثير منهم يعتقد أنه لا ينال في ذلك اليوم خيرا قط ، وكثير من الناس يتشاءم بما يعرض له نفسه في حال خروجه ، كما إذا عثر أو شيك ، يرى أنه لا يجد خيرا ، ومن ذلك التشاؤم ببعض الأيام ، أو ببعض الساعات كالحادي والعشرين من الشهر ، وآخر أربعاء فيه ، ونحو ذلك ، فلا يسافر فيها كثير من الناس ، ولا يعقد فيها نكاحا ، ولا يعمل فيها عملا مهما ابتداء ، يظن أو يعتقد أن تلك الساعة نحس ، وكذا التشاؤم ببعض الجهات في بعض الساعات ، فلا يستقبلها في سفر ، ولا أمر حتى تنقضي تلك الساعة أو الساعات ، وهي من أكاذيب المنجمين الملاعين ، يزعمون أن هناك فلكا دوارا يكون كل يوم أو ليلة في جهة من الجهات ، فمن استقبل تلك الجهة في الوقت الذي يكون فيها هذا الفلك ، لا ينال خيرا ولا يأمن شرا ، وهم في ذلك كاذبون مفترون ، قبحهم الله [ ص: 991 ] ولعنهم ، قد ضلوا من قبل ، وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل . ومن ذلك التشاؤم بوقوع بعض الطيور على البيوت ، يرون أنها معلمة بشر ، وكذا صوت الثعلب عندهم ، ومن ذلك الاستقسام بتنفير الطير والظباء ، فإن تيامنت ذهبوا لحاجتهم ، وإن تياسرت تركوها ، وهذا من الاستقسام بالأزلام الذي أمر الله تعالى باجتنابه ، وأخبر أنه رجس من عمل الشيطان ، وهذا وما شاكله كثير منه كان في الجاهلية قبل النبوة ، وقد أبطله الإسلام ، فأعاده الشيطان في هذا الزمان أكثر مما كان عليه في الجاهلية بأضعاف مضاعفة ، ووسع دائرة ذلك ، وساعده عليه شياطين الإنس من الكهنة والمنجمين وأضرابهم وأتباعهم ، أرداهم الله وألحقهم به ، آمين .

      قال الله تعالى : ( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ) ، ( الأعراف 131 ) ، وقال تعالى : ( ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون ) ، ( النمل 45 - 47 ) وقال تعالى في قصة الثلاثة رسل عيسى : ( قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم ) ، ( يس 16 - 18 ) ، قال مجاهد في قوله تعالى : ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه ) قالوا : العافية والرخاء نحن أحق بها ، ( وإن تصبهم سيئة ) ، قال : بلاء وعقوبة ( يطيروا بموسى ) ، قال : يتشاءموا به .

      وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ( ألا إنما طائرهم عند الله ) ، ( الأعراف 131 ) قال : الأمر من قبل الله . وقال - رضي الله عنه - في قوله : ( طائركم عند الله ) ، ( النحل 47 ) قال : الشؤم أتاكم من عند الله لكفركم ، وتقدم ذكر الطيرة ونفيها في الأحاديث السابقة .

      وقال البخاري - رحمه الله تعالى : حدثني عبد الله بن محمد ، حدثنا عثمان بن [ ص: 992 ] عمر ، حدثنا يونس ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا عدوى ولا طيرة ، والشؤم في ثلاث : في المرأة ، والدار ، والدابة .

      والشؤم ضد اليمن ، وهو عدم البركة ، والمراد به الأمر المحسوس المشاهد ، كالمرأة العاقر التي لا تلد ، أو اللسنة المؤذية أو المبذرة بمال زوجها سفاهة ، ونحو ذلك . وكذا الدار الجدبة ، أو الضيقة ، أو الوبيئة الوخيمة المشرب ، أو السيئة الجيران ، وما في معنى ذلك ، وكذا الدابة التي لا تلد ولا نسل لها ، أو الكثيرة العيوب الشينة الطبع ، وما في معنى ذلك ، فهذا كله شيء ضروري مشاهد معلوم ، ليس هو من باب الطيرة المنفية ، فإن ذلك أمرا آخر عند من يعتقده ، ليس من هذا ; لأنهم يعتقدون أنها نحس على صاحبها لذاتها ، لا لعدم مصلحتها وانتفائها ، فيعتقدون أنه إن كان غنيا ، افتقر ، ليس بتبذيرها بل لنحاستها عليه ، وإنه إن يأخذها ، يموت بمجرد دخولها عليه لا بسبب محسوس ، بل عندهم أن لها نجما لا يوافق نجمه ، بل ينطحه ويكسره ، وذلك من وحي الشيطان يوحيه إلى أوليائه من المشركين ، قال الله تعالى : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ، ( الأنعام 121 ) ، وقال تعالى : ( إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) ، ( الأعراف 27 ) .

      حتى إن رجلا في زماننا هذا كان يشعوذ على الناس بذلك ، ويفرق به بين المرء وزوجه ، فتنبه له بعض العامة ممن يحضر مجالس الذكر ، ويسمع ذم المنجمين وتكذيبهم بالآيات والأحاديث ، فقال له : إني أريد أن أنكح امرأة ، ما ترى فيها ، هل هي سعد لي أو نحس علي ؟ فعرض ذلك على قواعده الشيطانية ، ثم قال له : دعها ، فإنك إن أخذتها ، لا تبلي معها ثوبا - يعني : يموت سريعا لا تطول معها صحبته ، وكانت تلك المرأة التي سأله عنها ، وسماها له هي زوجته ، وقد طالت صحبته معها ، وله منها نحو خمسة من الأولاد ، فدعاهم كلهم بأسمائهم حتى حضروا ، فقال له : هؤلاء أولادي منها . ولهذا نظائر كثيرة من خرافاتهم .

      [ ص: 993 ] والمقصود أن الشؤم المثبت في هذا الحديث أمر محسوس ضروري مشاهد ، ليس من باب الطيرة المنفية التي يعتقدها أهل الجاهلية ومن وافقهم .

      وقال البخاري - رحمه الله تعالى : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا طيرة ، وخيرها الفأل . قالوا : وما الفأل ؟ قال : الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم .

      قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن أنس - رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا عدوى ولا طيرة ، ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة .

      قلت : ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - يوم صلح الحديبية حين جاء سهيل بن عمرو ، قال : سهل الله أمركم . الحديث وما شاكله .

      ومن شرط الفأل أن لا يعتمد عليه ، وأن لا يكون مقصودا ، بل أن يتفق للإنسان ذلك من غير أن يكون له على بال . ومن البدع الذميمة والمحدثات الوخيمة مأخذ الفأل من المصحف ، فإنه من اتخاذ آيات الله هزوا ولعبا ولهوا ، ساء ما يعملون .

      وما أدري كيف حال من فتح على قوله تعالى : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل ) ، ( المائدة 78 ) ، وقوله : ( وغضب الله عليه ولعنه ) ، ( النساء 93 ) ، وأمثال هذه الآيات .

      ويروى أن أول من أحدث هذه البدعة بعض المروانية ، وأنه تفاءل يوما ، ففتح المصحف ، فاتفق لاستفتاحه قول الله - عز وجل : ( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ) ، ( إبراهيم 15 ) الآيات ، فيقال : إنه أحرق المصحف غضبا من ذلك ، وقال أبياتا لا نسود بها الأوراق . والمقصود أن هذه بدعة قبيحة ، والفأل إذا قصده المتفائل ، فهو طيرة كالاستقسام بالأزلام ، وقد روى الإمام أحمد في تعريف الطيرة حديث الفضل بن العباس - رضي الله عنهما : إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك .

      [ ص: 994 ] وروى في كفارتها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - وقفه " من ردته الطيرة عن حاجته ، فقد أشرك " قالوا : فما كفارة ذلك ؟ قال : أن تقول : اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك .

      وقال أبو داود - رحمه الله تعالى : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن عيسى بن عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الطيرة شرك ( ثلاثا ) وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل . وقوله " وما منا إلا " . . . الخ هو من كلام ابن مسعود ، كما فصله الترمذي - رحمه الله - في روايته ، عن المرفوع حيث قال : سمعت محمد بن إسماعيل ، يقول : كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث " وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل " : كل هذا عندي قول عبد الله بن مسعود .

      وقال - رحمه الله تعالى : حدثنا أحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة قالا : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة بن عامر ( قال أحمد : القرشي ) قال : ذكرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أحسنها الفأل ، ولا ترد مسلما ، فإذا رأى أحدكم ما يكره ، فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بك .

      وأما الغول فهي واحد الغيلان ، وهي من شر شياطين الجن وسحرتهم [ ص: 995 ] والنفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية فيهم من الضر والنفع ، وكانوا يخافونهم خوفا شديدا ، ويستعيذون ببعضهم من بعض ، كما قال تعالى - عنهم : ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) ، ( الجن 6 ) زاد الإنس الجن جرأة عليهم وشرا وطغيانا ، وزادتهم الجن إخافة وخبلا وكفرانا ، وكان أحدهم إذا نزل واديا ، قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهائه ، فيأتي الشيطان فيأخذ من مال هذا المستعيذ أو يروعه في نفسه ، فيقول : يا صاحب الوادي ، جارك أو نحو ذلك . فيسمع مناديا ينادي ذلك المعتدي أن اتركه أو دعه أو ما أشبه ذلك ، فأبطل الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، ونفى أن يضروا أحدا إلا بإذن الله - عز وجل ، وأبدلنا عن الاستعاذة بالمخلوقين الاستعاذة بجبار السماوات والأرض ، رب الكون وخالقه ومالكه وإلهه ، وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا وكلماته التامات التي لا يجاوزهن جبار ولا متكبر ، فقال الله - تبارك وتعالى : ( وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ) ، ( المؤمنون 97 ) ، وقال تعالى : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ) ، ( الأعراف 200 ) ، وقال تعالى : ( قل أعوذ برب الفلق ) ، ( الفلق 1 ) إلى آخر السورة ، ( قل أعوذ برب الناس ) ، ( الناس 1 ) إلى آخر السورة ، وغيرها من الآيات ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هاتين السورتين : ما سأل سائل بمثلها ، ولا استعاذ مستعيذ بمثلها ، وقال - صلى الله عليه وسلم : من نزل منزلا ، فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك . وهو في الصحيح ، وفي بعض الأحاديث " إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان " ، وفي الحديث الصحيح [ ص: 996 ] إن الشيطان إذا سمع النداء أدبر وله ضراط ، وفي لفظ حصاص ، وأحاديث الاستعاذة والأذكار في طرد الشيطان وغيره كثيرة مشهورة مسبورة في مواضعها من كتب السنة ، وأما قول من قال : إن المراد في الحديث نفي وجود الغيلان مطلقا ، فليس بشيء ; لأن ذلك مكابرة للأمور المشاهدة المعلومة بالضرورة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبله ، وبعده من إتيانهم وانصرافهم ومخاطبتهم وتشكلهم ، والله أعلم .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية