بيان : منزلة صاحب السنة وصاحب البدعة
فصاحب السنة : حي القلب ، مستنير القلب ، وصاحب البدعة : ميت القلب مظلمه .
وقد ذكر الله سبحانه هذين الأصلين في كتابه في غير موضع وجعلهما صفة أهل الإيمان وجعل ضدهما صفة من خرج عن الإيمان ، فإن القلب الحي المستنير هو الذي عقل عن الله ، وأذعن وفهم عنه ، وانقاد لتوحيده ، ومتابعة ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم . " والقلب الميت المظلم الذي لم يعقل عن الله ولا انقاد لما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، ولهذا يصف سبحانه [ ص: 40 ] هذا الضرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء ، وبأنهم في الظلمات لا يخرجون منها ، ولهذا كانت الظلمة مستولية عليهم في جميع جهاتهم فقلوبهم مظلمة ترى الحق في صورة الباطل ، والباطل في صورة الحق ، وأعمالهم مظلمة ، وأقوالهم مظلمة ، وأحوالهم كلها مظلمة ، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة .
وإذا قسمت الأنوار دون الجسر للعبور عليه بقوا في الظلمات ، ومدخلهم في النار مظلم ، وهذه الظلمة هي التي خلق فيها الخلق أولا ، فمن أراد الله سبحانه وتعالى به السعادة أخرجه منها إلى النور ، ومن أراد به الشقاوة تركه فيها ، كما روى الإمام أحمد في صحيحه من حديث وابن حبان رضي الله عنهما " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( عبد الله بن عمرو ) " ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى أن يجعل له [ ص: 41 ] نورا في قلبه وسمعه وبصره وشعره وبشره ولحمه وعظمه ودمه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وخلفه وأمامه وأن يجعل ذاته نورا ، فطلب صلى الله عليه وسلم النور لذاته ولأبعاضه ولحواسه الظاهرة والباطنة ولجهاته الست . إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ، فلذلك أقول جف القلم على علم الله
وقال " رضي الله عنه " : " المؤمن مدخله من نور ، ومخرجه من نور ، وقوله نور ، وعمله نور . . " وهذا النور بحسب قوته وضعفه يظهر لصاحبه يوم القيامة فيسعى بين يديه ويمينه . فمن الناس من يكون نوره كالشمس ، وآخر كالنجم ، وآخر كالنخلة السحوق ، وآخر دون ذلك حتى " إن " منهم من يعطى نورا على رأس إبهام قدمه يضيء مرة ويطفئ أخرى ، كما كان نور إيمانه ومتابعته في الدنيا كذلك ، فهو هذا بعينه يظهر هناك للحس والعيان . أبي بن كعب
وقال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا . . ) الآية فسمى وحيه وأمره روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح . وسماه نورا ; لما يحصل به من الهدى واستنارة القلوب والفرقان بين الحق والباطل .
[ ص: 42 ] وقد اختلف في الضمير في قوله " عز وجل " : ( ولكن جعلناه نورا ) فقيل : يعود على الكتاب ، وقيل : على الإيمان ، والصحيح أنه يعود على الروح ، في قوله : ( روحا من أمرنا ) فأخبر تعالى أنه جعل أمره روحا ونورا وهدى ، ولهذا ترى صاحب اتباع الأمر والسنة قد كسي من الروح والنور وما يتبعهما من الحلاوة والمهابة والجلالة والقبول ما قد حرمه غيره ، كما قال الحسن : ( إن المؤمن من رزق حلاوة ومهابة ) ، وقال جل وعلا : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات . . ) ، فأولياؤهم يعيدونهم إلى ما خلقوا فيه ، من ظلمة طبائعهم وجهلهم وأهوائهم ، وكلما أشرق لهم نور النبوة والوحي وكادوا أن يدخلوا فيه منعهم أولياؤهم منه وصدوهم ، فذلك إخراجهم إياهم من النور إلى الظلمات .
وقال جل وعلا : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها . . ) فأحياه سبحانه وتعالى بروحه الذي هو وحيه وهو روح [ ص: 43 ] الإيمان والعلم ، وجعل له نورا يمشي به بين أهل الظلمة كما يمشي الرجل بالسراج المضيء في الظلمة ، فهو يرى هل الظلمة في ظلماتهم وهم لا يرونه كالبصير الذي يمشي بين العميان .