الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
( قول الإمام إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي ) صاحب كتاب الترغيب والترهيب [ ص: 180 ] وكتاب الحجة في بيان المحجة ، ومذهب أهل السنة ، وكان إماما للشافعية في وقته رحمه الله تعالى وجمع له أبو موسى المديني مناقب جليلة لجلالته ، قال في كتاب الحجة ( باب في بيان استواء الله سبحانه وتعالى على العرش ) قال الله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) . وقال في آية أخرى : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) وقال : ( لعلي حكيم ) .

وقال تعالى : ( سبح اسم ربك الأعلى ) قال أهل السنة : الله فوق السماوات لا يعلوه خلق من خلقه ومن الدليل على ذلك أن الخلق يشيرون إلى السماء بأصابعهم ويدعونه ويرفعون إليه رءوسهم وأبصارهم وقال عز وجل : ( وهو القاهر فوق عباده ) وقال تعالى : ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ) والدليل على ذلك الآيات التي فيها ذكر نزول الوحي .

فصل في بيان أن العرش فوق السماوات وأن الله سبحانه وتعالى فوق العرش ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي في البخاري : لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش " إن رحمتي غلبت غضبي وبسط الاستدلال على ذلك بالسنة ثم قال : قال علماء السنة : إن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه ، وقالت المعتزلة : هو بذاته في كل مكان .

[ ص: 181 ] قال : وقالت الأشعرية : الاستواء عائد إلى العرش قال : ولو كان كما قالوا لكانت القراءة برفع العرش فلما كانت بخفض العرش دل على أنه عائد إلى الله سبحانه وتعالى قال : وقال بعضهم : استوى بمعنى استولى قال الشاعر :


قد استوى بشر على العراق * من غير سيف أو دم مهراق



والاستيلاء لا يوصف به إلا من قدر على الشيء بعد العجز عنه ، والله تعالى لم يزل قادرا على الأشياء ومستوليا عليها ، ألا ترى أنه لا يوصف بشر بالاستيلاء على العراق إلا وهو عاجز عنه قبل ذلك ، ثم حكى أبو القاسم عن ذي النون المصري أنه قيل له : ما أراد الله سبحانه بخلق العرش ؟ قال : أراد أن لا تتوه قلوب العارفين . قال : وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) قال : هو على العرش وعلمه في كل مكان ، ثم ساق الاحتجاج بالآثار إلى أن قال : وزعم هؤلاء أن معنى ( الرحمن على العرش استوى ) أي ملكه وأنه لا اختصاص له بالعرش أكثر مما له بالأمكنة وهذا إلغاء لتخصيص العرش وتشريفه .

( وقال أهل السنة ) : خلق الله تعالى السماوات وكان عرشه مخلوقا قبل خلق السماوات والأرض ثم استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض على ما ورد به النص وليس معناه المماسة بل هو مستو على عرشه بلا كيف كما أخبر عن نفسه .

قال : وزعم هؤلاء أنه لا يجوز الإشارة إلى الله سبحانه بالرءوس والأصابع إلى فوق فإن [ ص: 182 ] ذلك يوجب التحديد ، وقد أجمع المسلمون أن الله سبحانه العلي الأعلى ، ونطق بذلك القرآن فزعم هؤلاء أن ذلك بمعنى علو الغلبة لا علو الذات ، وعند المسلمين أن لله عز وجل علو الغلبة . والعلو من سائر وجوه العلو ; لأن العلو صفة مدح فثبت أن لله تعالى علو الذات وعلو الصفات وعلو القهر والغلبة ، وفي منعهم الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى من جهة الفوق خلاف منهم لسائر الملل ; لأن جماهير المسلمين وسائر الملل قد وقع منهم الإجماع على الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى من جهة الفوق في الدعاء والسؤال ، واتفاقهم بأجمعهم على ذلك حجة ، ولم يستجز أحد الإشارة إليه من جهة الأسفل ولا من سائر الجهات سوى جهة الفوق ، وقال تعالى : ( يخافون ربهم من فوقهم ) وقال تعالى : ( إليه يصعد الكلم الطيب ) . وقال تعالى : ( تعرج الملائكة والروح إليه ) وأخبر تعالى عن فرعون أنه قال : ( ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى ) فكان فرعون قد فهم من موسى عليه الصلاة والسلام أنه يثبت إلها فوق السماء ، حتى رام بصرحه أن يطلع إليه واتهم موسى عليه الصلاة والسلام بالكذب في ذلك ، والجهمية لا تعلم أن الله فوقها بوجود ذاته فهم أعجز فهما من فرعون ( بل وأضل ) ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سأل الجارية التي أراد مولاها عتقها أين الله ؟ قالت : في السماء وأشارت برأسها إلى السماء وقال : من أنا ؟ فقالت : أنت رسول الله ، فقال : أعتقها فإنها مؤمنة . فحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإيمانها حين قالت : إن الله في السماء ، وحكم الجهمي بكفر من يقول ذلك . هذا كله كلام أبي القاسم التيمي رحمه الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية