ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته ، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك وإنما يوجه كلام الله عز وجل على الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم ، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات ، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين ، والاستواء معلوم في اللغة مفهوم ، وهو : العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه ، قال أبو عبيدة في قوله : ( الرحمن على العرش استوى ) قال : علا ، قال : وتقول العرب : استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت . وقال غيره : استوى أي استقر ، واحتج بقوله تعالى : ( ولما بلغ أشده واستوى ) أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد . قال : والاستواء الاستقرار في العلو وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه فقال : ( ابن عبد البر لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ) وقال تعالى : ( واستوت على الجودي ) وقال تعالى : ( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ) .
وقال الشاعر :
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة * وقد حلق النجم اليماني فاستوى
[ ص: 146 ] وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد استولى . لأن النجم لا يستولي وقد ذكر وكان ثقة مأمونا جليلا في علم الديانة واللغة قال : حدثني النضر بن شميل الخليل وحسبك بالخليل قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم ما رأيت فإذا هو على سطح فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا . . استووا . فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال . فقال لنا أعرابي إلى جنبه إنه أمركم أن ترفعوا ، فقال الخليل : هو من قول الله : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) فصعدنا إليه . قال : وأما نزع من نزع منهم بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن رضي الله عنهما في قوله تعالى : ( ابن عباس الرحمن على العرش استوى ) قال : استولى على جميع بريته فلا يخلو منه مكان .
فالجواب : إن هذا حديث منكر على رضي الله عنهما ونقلته مجهولون وضعفاء ، فأما ابن عباس عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد : فضعيفان ، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف ، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول فكيف يسوغ لهم الاحتجاج [ ص: 147 ] بمثل هذا من الحديث لو عقلوا وأنصفوا ، أما سمعوا الله سبحانه حيث يقول : ( وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ) فدل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول إن إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذبا .
وقال الشاعر :
فسبحان من لا يقدر الخلق قدره * ومن هو فوق العرش فرد موحد
مليك على عرش السماء مهيمن * لعزته تعنوا الوجوه وتسجد
وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه * يعظم ربا فوقه ويمجد
ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر ، أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى " أكثر من " حكايته لأنه اضطرار لم يوقعهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم ، وقد فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها برفعها رأسها إلى السماء واستغنى بذلك عما سواه قال وأما احتجاجهم بقوله تعالى : ( ما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن قال لها أين الله ؟ فأشارت إلى السماء ثم قال لها من أنا ؟ قالت : " أنت " رسول الله . قال : أعتقها فإنها مؤمنة يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية : هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله ، وذكر عن سنيد عن مقاتل بن حيان في قوله تعالى : ( الضحاك بن مزاحم ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) قال هو على عرشه ، وعلمه معهم أينما كانوا . قال : وبلغني عن مثله [ ص: 149 ] قال سفيان الثوري وحدثنا سنيد عن حماد بن زيد عن عاصم ابن بهدلة عن زر بن حبيش رضي الله عنه قال : الله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم . ثم ساق من طريق ابن مسعود عن يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن عاصم ابن بهدلة زر عن رضي الله عنه قال : ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام ، وما بين كل سماء إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام ، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام ، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام ، والعرش على الماء والله على العرش ، ويعلم أعمالكم وذكر هذا الكلام أو قريبا منه في كتاب الاستذكار . عبد الله بن مسعود