ثالثا: دعوة عقلية تقوم علـى المنطـق السليـم وتستنـد إلى البرهان القوي
ترتفع قيمة المرء في الإسلام كلما ارتقت اهتماماته العقلية، بل إن من أهم الأهداف الإصلاحية لهذا الدين هـو تحرير الفكر البشري من ربقة التقليد والخرافات، وتوجيهه نحو الفكر الحر، ولذلك حارب الوثنية لأنها انحطـاط بالعقـل، وعمـى في البصيـرة.. وحين طلب بعـض المرتـابين فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم المعجزات المادية التي تثبت صحة هـذه الرسالة، كان رد الله عليهم أن ينظروا فيما احتوته آيات القرآن الكريم من دلائل [ ص: 171 ] عقلية وصور كونية، تثبت صحة ما تضمنته هـذه الرسالة، وصدق حاملها،
وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: ( وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) (العنكبوت:50-51) .
وقد كتب الله في سننه أن يكون منطق العقل تاج هـذه الحياة الإنسانية، يستطيع اكتناه غاية ما تستطيعه الإنسانية من أسرار الكون، كما كتب الله في لوح هـذا الوجود أن يقوم نبي الإسلام داعيا إلى الحق بمنطق العقل هـو ومن اتبعه،
وفي ذلك يقول عـز وجـل: ( قل هـذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) (يوسف:108) .
والإعلام الدعوي يحترم العقل الإنساني، ويقدر الفكر البشري، ويضع الحجج العقلية والأساليب المنطقية على رأس طرق التفاهم والنقاش والجدل المفيد، كما يجعل فيما خلق الله أهم مداخل الإيمان بالله، والتصديق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان قد مضى زمن الأنبياء، فنحن لا نستطيع أن نأتي اليوم بسفينة نوح، أو عصا موسى، أو معجزات عيسى -عليهم السلام- لإحياء الموتى وشفاء المرضى، فإنه ليس أمامنا سوى وسيلة الإقناع الهادئ المنطقي، دون صراخ أو صياح أو انفعال قد يضر بالدعوة أكثر مما يفيدها، ويصورنا وكأننا قوم من الغوغائيين، الذين يفتقدون القدرة على الحوار [ ص: 172 ] بالحجة والإقناع بالدليل، وهذا يعني أن ما يصلح لمخاطبة المسلمين -حتى العصاة منهم- لا يصلح بالضرورة لغير المسلمين.
وما أكثر الآيات القرآنية التي تطلب من الإنسان أن يفكر ويتدبر، ويطلق عقله ليستنبط به، ثم يعتبر من خلال النظر إلى ما حوله من ظواهر طبيعية وحقائق علمية،
يؤكد ذلك ما قاله الله تعالى: ( فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هـداهم الله وأولئك هـم أولو الألباب ) (الزمر:17-18) ..
وما قاله عز وجل: ( كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ) (الروم:28) .
وهذا هـو الفارق بين الدعوة الإسلامية والدعاية التنصيرية، أو غيرها من الدعاوى الأخرى، لأن عظمة الإسلام وبساطته وأخـذه بحكم العقـل لا يدع فرصة لأية دعاية أخرى للتشكيك في أنبائه أو الطعن في أحكامه.
وقد درج بعض من يتحملون أمانة الدعوة على استخدام أسلوب الصراخ أو الإثارة وتهييج الجماهير Agitation، والتركيز على أوتار العاطفة، وهذا أسلوب وإن حقق بعض النجاح لدى العوام من الجماهير التي لم تنل حظا من الثقافة والتعليم، فإنه لا يصلح لمخاطبة المثقفين والمفكرين، لأن هـؤلاء يستقبلون الفكرة عبر عقولهم المتفتحة، وملكاتهم الناضجة، ونظراتهم الصائبة.
كما أن هـذا الأسلوب -وإن حقق بعض أغراضه لدى جماهير المسلمين، الذين يتوافر لديهم الاستعداد لقبول الدعوة- لا يصلح لمخاطبة [ ص: 173 ] غيـر المسلمين، الذي لا يؤمنـون برسالـة محمـد صلى الله عليه وسلم، ولا يعتقـدون فيما حملته آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولعله من غير المنطقي مخاطبة غير المسلمين بالحجج القرآنية والنهج النبوي، لأن هـؤلاء لا يعترفون بالإسلام دينا ولا يؤمنون بالكتاب والسنة، والسبيل الوحيد للحوار معهم هـو الأدلة العقلية، والأمثلة الحياتية، والحجج المنطقية، التي يمكن أن تفحمهم، وتصيبهم بالعجز، وعدم القدرة على الاستمرار في الجدل العقيم والمعاندة المرذولة، كما أفحم إبراهيم عليه السلام من حاجه في الله، متحديا إياه أن يأتي بالشمس من المغـرب حيث يأتي بهـا الله من المشـرق، فبهت الذي كفـر، ولم يجـد إلا التسليم معلنا هـزيمته.
وهكذا نرى أنه بالتمعن في جوهر الدعوة الإسلامية يتبين أنها دعوة عقلية بكل معاني الكلمة، وتشير كافة الأدلة والبراهين على أن الإسلام دين يقوم على الإقناع، ويستند إلى البرهان في مخاطبة الناس جميعا، المسلمين منهم وغير المسلمين، وتأتي هـذه الأسس على رأس طرق التفاهم والنقاش والجدل المفيد.. كما يجعل النظر فيما خلق الله، من أهم مداخل الإيمان بالله، والتصديق بما جاء به محمد صلوات الله وسلامه عليه. وقد ذكر القرآن الكريم العقل، باسمه ومشتقاته، نحو خمسين مرة، وذكر أولي الألباب بضع عشرة مرة، كما ذكر أولي النهى أكثر من مرة، وقد أمر الله بالمحافظة على العقل لعظم شأنه وضرورة الحاجة إليه، لأن فقده يعني فقد شخصية الإنسان، ولأن الإخلال به يؤدي إلى التخبط والضلال، فحرم [ ص: 174 ] كـل ما يؤثـر عليـه من المسكـر والمفتـر، ووضـع عقوبـة قاسيـة لمن ينتهك حرمته.
وبلغ تقدير الإسلام للعقل أن جعل معجزته -وهي القرآن الكريم- معجزة إلهية، ترتبط به في كل زمان وفي كل مكان، وما أكثر الآيات القرآنية التي تطلب من الإنسان أن يفكر ويتدبر، ويطلق سراح عقله ليستنبط ويعتبر من خلال النظر إلى ما حوله من ظواهر طبيعية، وحقائق علمية، تمييزا له عن الكائنات الأخرى التي لا تسمع ولا تعقل ولا تعي،
وفي ذلك يقول عز من قائل: ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هـم إلا كالأنعام بل هـم أضل سبيلا ) (الفرقان:44) .
والجدل العقلي تصعب ممارسته بمعزل عن حرية العقل، فلا يكون للإنسان أن يجادل فيما لا يقتنع به، ولا أن يسأل عما لا يطمئن إليه قلبه، وبالتالي فإن أبرز ما يميز دعوة الإسلام هـو ربطها بالعقل واحترامها له، حيث اشترط هـذا الدين على من يتلقون عنه ويدينون به أن يتلقوه بعقولهم، وأن يأخـذوا أحكامـه وتعاليمـه بعـد بحث وتمحيص، ومن لم يقتنع بعد ذلك فلا يكره على اعتناقه، وعلى الله حسابه، كما أن الإسلام ليس في حاجة إليه.
وقد ضرب حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه ، الذي حمل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس حاكم مصر، أروع الأمثلة في الإقناع بالحجة، والمخاطبة بالبرهان، حين تحداه المقوقس بعد أن تسلم منه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: ما منعه إن كان نبيا أن يدعو علي فيسلط علي [ ص: 175 ]
أي أنه إذا كان محمد نبيا حقا، فلماذا لا يدعو ربه ليتم القضاء علي، ويبسط دينه دون مجهود. فرد عليه حاطب في الحال: (وما منع عيسى ابن مريم أن يدعو على من أبى عليه أن يفعل به ويفعل )
أي أن عيسى ابن مريم الذي تؤمنون برسالته كان يستطيع هـو الآخر أن يدعو على قومه بما يشاء، وينشر دينه دون مجهود أو معاناة، فما الذي منعه من هـذا حتى يوفر على نفسه العناء والمشقة وقد تسبب هـذا الـرد في إصابـة المقوقـس بدوار ووجـوم، صمت ولم يجد ما يرد به على حاطب، الذي أكد له أن بشارة موسى بعيسى في التوراة مثل بشارة عيسى بمحمد في الإنجيل، وأن الإسلام لم يأت للقضاء على المسيحية، بل جاء ليؤكدها ويصحح مسارها، ولم يجد المقوقس سوى التسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأرسل له الهدايا، كما أرسل له جاريتين تزوج الرسول بإحداهما وهي مارية القبطية التي أنجب منها ابنه إبراهيم [1]