الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إشكاليات العمل الإعلامي (بين الثوابت والمعطيات العصرية)

الأستاذ الدكتور / محي الدين عبد الحليم

رابعا: إشكالية العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي

أفرزت الساحة العربية الإسلامية المعاصرة عددا من الذين تعلموا في الخارج، وانبهروا بالنمط الغربي في أسلوب العمل والحياة، وبدلا من أن يعملوا على مساعدة بلادهم وتحديث الحياة فيها، وينهضوا بالمجتمعات [ ص: 108 ] التي علمتهم وأنفقت عليهم، وتحملت من أجلهم الكثير، ويردوا الدين للأيادي التي ساعدتهم والقلوب التي آزرتهم، نراهم وقد تملكهم الغرور، وارتدوا قبعات الغرب، ولبسوا أقنعته، وتعالوا على أهلهم وذويهم الذين ضحوا من أجلهم، وحرموا أنفسهم ليتيحوا لهم فرص التعليم والترقي.

ولم يكتف هـؤلاء بالتعالي والصلف والغرور، بل سولت لهم أنفسهم التطاول على ثوابت العقيدة، وراحوا ينادون بتطويرها كي تتوافق مع متغيرات العصر، ويسخرون من المؤمنين الذين يعملون في صمت العابدين، ويعبدون الله بجهد العاملين، لا ذنب لهم إلا أنهم تحملوا هـموم أوطانهم، وتسلط مترفيهم، وظلم جلاديهم.

فهذا يطالب بتطوير العلاقة بين الشاب والفتاة لتكون علاقة متحضرة، كحضارة الأمم القوية، وإبطال العمل بأحكام الدين، كتعدد الزوجات وارتداء الحجاب، بدعوى أنه يكفي ما عانته المرأة من ظلم الرجل المسلم سنوات طويلة، حتى حولها إلى دمية أو قطعة أثاث يضعها حيث يشاء.. وذاك يطالب بإباحة الخمور والفجور تماشيا مع نمط الحرية التي يعيشها الإنسان في دول غزت الفضاء، وسيطرت على الكواكب، وقهرت الأرض والجبال، وأطلقت للإنسان حرية الخلق والابتكار.. وآخر يدافع عن المعاملات الربوية باعتبارها نظاما عالميا لا يمكن للشعوب أن تنهض بدونه، وإلا فإنها سوف تسقط في مستنقع الفقر والفاقة. [ ص: 109 ]

وهم يطالبون (بعصرنة) الدين، وتهميش علومه في المناهج العلمية بالمدارس والمعاهد والجامعات، حتى تتحول هـذه العلوم إلى مواد مساعدة لا يهتم بها الطالب، كما ينادون بفصل علوم الإسلام عن علوم الحياة، فيكون هـناك قانون إسلامي وقانون مدني، واقتصاد إسلامي واقتصاد غير إسلامي، وتربية إسلامية وأخرى غير إسلامية!

وهنا نقول لهؤلاء الذين يرون في الدين وعلومه حجر عثرة في سبيل التقدم الذي ينشدونه: ماذا لو تم (تديين) العصر بدلا من عصرنة الدين ؟ و (تديين) العصر، يعني الانطلاق إلى علوم العصر وفنونه وتقنياته، وحفز العلماء والباحثين إلى الإبداع والابتكار والتحديث، من منطلقات دينية، لتحقيق الخير والفضيلة لشعوبهم.

إن (تديين) العصر لا يعني التخلف والجمود، كما أنه لا يعني توظيف القنوات الفضائية والأسلحة النووية وعلوم الطب والأحياء لتدمير الإنسان، وهو لا يعني الظلم والتسلط والفساد، واستغلال النفوذ والسلطان والمال لقهر الفقراء وقمع الضعفاء وتسلط الأغنياء.. إن الدين حين يحكم، فهذا يعني حكم الفضيلة والأخلاق والمثل العليا، والارتقاء بالإنسان، وإثراء قيمه الروحية، ودفعه إلى إعمار الكون واستكشاف كنوزه والإفادة منها.

وفي هـذا الإطار يمكن أن ينطلق المبدعون إلى آفاق الحياة الرحبة في البر والبحر والجو لاستكشاف كنوزها، واستثمار ملكاتهم لخير الإنسان [ ص: 110 ] بدلا من توظيفها للتسلط والظلم والفساد، وهذا ما حققه المسلمون حين كانت لهم السيادة والريادة العلمية، فقد كانوا نماذج متفردة في العلوم والفنون، وقد نشروها أينما حلت أقدامهم، وتسربت عنهم إلى أوروبا، فكانوا سببا في نهضتها وارتقائها. وتؤكد أحداث التاريخ أنه لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوروبا الحديثة عدة قرون، ويكفي أن نعرف أن ترجمات العرب العلمية كانت هـي المصدر الوحيد للتدريس في جامعات الغرب نحو ستة قرون.

التالي السابق


الخدمات العلمية