الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إشكاليات العمل الإعلامي (بين الثوابت والمعطيات العصرية)

الأستاذ الدكتور / محي الدين عبد الحليم

ثاني عشر: الحرية الإعلامية وحق الاتصال

اعتبر الإسلام التفكير سبيل الإيمان، وأعطى النظام الإسلامي للإنسان الحق الكامل في أن يفكر في جميع ما يكتنفه من أمور، وما يقع تحت بصره من ظواهر، وأن يأخذ بما يهديه إليه إدراكه، ويعبر عنه بمختلف الوسائل المشروعة، وأن يجهر بالحق الذي يعتقده، حتى لو كان مجانبا للصواب- في نظر الآخرين- أو مخالفا لرأي الأغلبية، وقد أثابه على ذلك بأجر إن أخطأ وبأجرين إن أصاب، وترك له حرية التصرف فيما يراه نافعا له ولمجتمعه، وتبعا لحسن استخدام عقله، ليدرك عظمة الخالق، ويتابع حركة الحياة في الدنيا، ويبتعد عن الجمود الذي يؤدي إلى ضعف نشاطه الفكري، ليتمكن من تغير ما بنفسه حتى يساعده الله لما فيه خيره. [ ص: 146 ]

وقد سار رسول الله صلى الله عليه وسلم على هـذا النهج، والتزم به الخلفاء الراشدون من بعده، فكانت حرية الرأي في عهودهم مكفولة للجميع، ومحاطة بسياج من القدسية، فلا يتم الحجر على حرية أحد في التفكير أو التعبير [1] ويدخل في حرية التفكير والتعبير: حرية الصحافة، والخطابة، والإذاعة بشقيها المرئي والمسموع، وحقه في الاتصال والمعرفة، والمشاركة الإسلامية، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم

على أصحابه العهد ألا يخافوا في الحق لومة لائم، وطالب المؤمنين جميعا بالتحلي بالشجاعة والقوة، وأن يلتزموا بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا يكونوا إمعات مع الباطل، حتى لو كان لهذا الباطل الغلبة والسلطان والسيطرة، وحتى لو أمسك بعصا غليظة، لأن هـذه العصا سوف تهتز في يد صاحبها لأنها يد الخائف المرتجف [2] وفي ضوء هـذه الحقيقة، نستطيع أن نؤكد أن هـذه الأمة لا يمكن أن تقال من عثرتها، وتعود إلى سابق مجدها، في ظل أنظمة تمارس الإرهاب والقهر، وتحجر على الحريات، وتفرض قوانين ونظما تحول بين المبدعين من أبنائها وبين قدرتهم على النهوض بها، والأخذ بيدها، لأن ثمة علاقة [ ص: 147 ] عضوية لا تنفصم عراها بين الإبداع والحرية، فبقدر مساحة الحرية المتاحة للمبدعين، يكون العطاء الذي يمكن أن يقدمونه لأمتهم.

وهذا يعني أن أخطر أعداء التقدم والتفوق والازدهار هـو سيطرة العناصر الجاهلة والعقليات الغاشمة على منابر الفكر وقنوات الاتصال، لأن هـؤلاء لن يسمحوا للمبدعين بتقديم ما حوته عقولهم، وما اختزنته صدورهم من أعمال خلاقة وأنشطة بناءة، بل إن أول ما يشغل فكر هـذه العناصر هـو القضاء على هـؤلاء المبدعين، حتى تخلو لهم الساحة، ويتمكنوا من السيطرة والتسلط، وصياغة النظم والقوانين التي تلبي رغباتهم، وإعداد اللوائح والدساتير التي تخدم أغراضهم وتحقق أهدافهم، ويدعون أنهم حماة الحرية، ولكنها الحرية التي تتفق مع أهوائهم وميولهم، وإذا اختلف معهم أحد أو تجرأ على معارضتهم يكشرون عن أنيابهم، ويشهرون أسلحتهم، لأن الرأي الآخر سوف يضع الأمور في نصابها الصحيح، ويصوغ العلاقات المتوازنة بين كل أفراد المجتمع، فيظهر الغث من السمين والهدى من الضلال.

وإلا فما هـو تفسير ظهور المبدعين من العرب والمسلمين على الساحة الدولية في مجالات الفضاء والطب والفن، بعيدا عن أوطانهم؟ إنه مناخ الحرية الذي تتيحه لهم الأنظمة التي هـربوا إليها، والحوافز المعنوية والأدبية والمادية التي تتدفق عليهم، والأمن والسلام الذي يتحقق لهم. كما أن فقدان المصداقية وغياب الحرية الإعلامية، أضعف من إمكانية التأثير في [ ص: 148 ] الناشئة، فدور الرقابة والمنع الآن أصبح دورا سلبيا يأتي بنتائج عكسية، فأبناؤنا إذا منحناهم الحرية الكاملة لن يستطيعوا استخدامها لأنهم لن يحسنوا التعامل معها، وهذا ببساطة يرجع إلى أنهم لم يتعلموها أو يمارسوها ممارسة عملية، ففشل الناس في تربية أولادهم، وهكذا تلقفتهم أجهزة الإعلام الأجنبية، وأصبحوا يأخذون عنها القدوة والمثل.

الحقيقة أن الأمة الإسلامية قد تخلفت بسبب التسلط والقمع وسحق إرادة الجماهير، لأن الفرد لا يستطيع أن يبدع ويسهم في إثراء الحياة إلا إذا توافرت له مساحة كافية من الحرية والاستقرار والأمان.

ولم يشهد التاريخ أن أمة تقدمت أو أضافت للتراث الإنساني شيئا وهي تعيش في ظل أنظمة دكتاتورية واستبدادية أو شمولية، حتى لو توافرت لها الإمكانات المادية، والطاقات البشرية، ومصادر الثروة، وأسباب التقدم والرفاهية.

وقد أدركت الأنظمة التي تريد لشعبها الخير والتقدم هـذه الحقيقة، فأطلقت العنان للفكر الخلاق والرأي الحر، ليسهم في البذل والعطاء، ولنا أن نقارن كيف كانت أوضاع ألمانيا واليابان، ونمور آسيا السبعة قبل القفزات الاقتصادية التي حققتها؟ وكيف أصبحت أوضاع هـذه الدول الآن؟ وكيف استطاع المواطن الألماني والياباني والآسيوي أن يبدع ويثري الحياة الفكرية في مجتمعه؟ إن ذلك يرجع إلى أن توفير هـذا المناخ من [ ص: 149 ] الحرية هـو الذي يسهم في بناء الإنسان بناء صحيحا، ويهيئ له الظروف الملائمة للخلق والابتكار.

فبالحرية حقق المسلمون الأوائل قدرا هـائلا من القوة والمنعة، وفي ظل هـذا المناخ الصحي استطاعوا أن يجمعوا شتات الأمة، ويوحدوا بين أبنائها، وينشروا الأمان والسلام في أرجائها، لتخرج من أحشائها هـذه الأدمغة الخلاقة، وتلك العبقريات المتميزة، التي ما يزال يغترف من علمها وفكرها علماء العالم ومفكروه في عصرنا الراهن.

وبالتالي فإن إعمال العقل والاجتهاد بالرأي، والاختلاف في وجهات النظر، مطلب لا يجوز أن يعاقب عليه صاحبه إذا ما التزم الأصول والثوابت، ومن حق كل فرد أن يقدم حججه وبراهينه، وأن يقول رأيه بصراحة، ويبدي وجهة نظره دون خوف، وليس في الإسلام قيد على الحرية، ولا كبت للرأي، ولا إجبار على السكوت، ولكل مسلم أن يتحدث بما يشاء، سواء أخذ برأيه أولم يؤخذ به، وسواء كان رأيه خطأ أم صوابا.

وهذه الحرية هـي التي جعلت بعض المسلمين يجاهرون بالرأي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالرغم من إجلالهم له إجلالا لا يقف عند حد، لأن هـذا الدين لم يمنع الآخرين من تبني ما يعتقدون من آراء وأفكار ما دامت لا تخرج عن حيز الشرع، ويكفي أن ندرك أن الحق تبارك وتعالى قد حذر رسوله [ ص: 150 ] وحذر المسلمين من قهر إرادة الآخرين، وفي ذلك يقول تعالى: ( فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر ) (الغاشية:22) .

وفي هـذا تقرر الدعوة الإسلامية ابتداء أنه لا إكراه في الدين، وتؤكد على مبدأ حرية العقيدة، لأن الإسلام يريد أن يتم اعتناقه عن إيمان واقتناع، لا عن إكراه أو تقليد، ولذلك فهو لا يجبر أحدا على الدخول فيه، لأن طبيعة الإيمان تتناقض مع طبيعة الإكراه، فلا إيمان مع الإكراه، وغاية الإسلام أن يختار الإنسان مصيره ويتحمل مسئولياته، لذلك يبين الله أن الإسلام يرغب فيمن يريد اعتناقه أن يتم ذلك عن صدق ويقين، لا عن تضليل وتغرير، وأن يتسم هـذا الاختيار بحرية مطلقة، وقد صرح القرآن الكريم بذلك في العهد المكي، قبل وقوع الصدام المسلح مع المشركين،

وفي ذلك يقول جل وعلا : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس:99) .

وقد التزم رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، بمبدأ حرية الاعتقاد كأساس تقوم الدعوة الإسلامية وليس لمجرد التسامح والمسالة، في الوقت الذي حذر فيه من مغبة إرغام الناس على دخول الإسلام قسرا، وفرضه عليهم فرضا، وهو ما يأباه هـذا الدين نصا وروحا، حيث إن الإيمان لا يصدق إلا إذا نبع من القلب والضمير، فلا خير في كلمة ينطق بها [ ص: 151 ] اللسان، ويكفر بها القلب، فذلك هـو النفاق الذي يعده الإسلام شرا من الكفر الصريح.

وهذا يدحض الادعاء بأن السيف كان الأداة الرئيسة لنشر الدعوة، لأن الدعوة تقوم على الإقناع وليس على القمع، وتعتمد على الكلمة الطيبة والأسلوب الرقيق، وتستبعد العنف.. والإسلام ليس بحاجة إلى هـؤلاء الذين يدخلون دون رضا وقناعة. وقد كان هـذا اللون من ألوان الرحمة والإنسانية، الذي طبقه القادة المسلمون في تعاملهم مع أعدائهم، مثالا واضحا للدعاة المجاهدين بالكلمة الطيبة المؤثرة، التي استطاعت التأثير ودفعت غير المسلمين للإقبال على الإسلام بعد.

وهكذا نرى سماحة الإسلام ورحمته تمتد لتشمل بني البشر جميعهم، وهي الطريق الذي قرره القرآن الكريم حتى يشعر الجميع أنهم في ظل الإسلام في أمان، لا خوف عليهم ولا افتئات على حقوقهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية