الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إشكاليات العمل الإعلامي (بين الثوابت والمعطيات العصرية)

الأستاذ الدكتور / محي الدين عبد الحليم

الأطر والمعالم الرئيسة للعمل الإعلامي في المنظور الإسلامي

من خلال استعراضنا للأسس التي تحكم المنهج الإعلامي في المنظور الإسلامي، فإنه يمكن أن نستخلص القواعد والضوابط التي تحكم هـذا المنهج وتحدد معالمه، وذلك في مجموعة من النقاط نجملها فيما يلي:

أولا: المصدر الرئيس لصياغة منهاج إسلامي للعمل الإعلامي هـو القرآن الكريم وسنة رسول الله، ومنهما مرجعية هـذا العمل وضوابطه، وهي مرجعية لا تتعدل ولا تتبدل، ولا يعتريها التغيير بفعل عوامل الزمان والمكان، لأنها تستمد نصوصها من الكتاب والسنة، هـدفها واضح، وأساليبها محكومة بالقواعد التي تحددها الشريعة الإسلامية.

ثانيا: تختلف الفلسفة الإسلامية في الإعلام عن الفلسفات الأخرى، التي تسقط بسقوط النظام الذي أوجدها والقوى التي تحميها، كما هـو الحال في الفلسفة الماركسية.. وهي فلسفة راسخة لا تتعدل أو [ ص: 188 ] تتبدل بحسب الظروف والمتغيرات التي تفرض نفسها على الساحة المحلية أو الدولية -كما هـو الحال في الفلسفة الليبرالية أو نظرية المسئولية الاجتماعية- لأنها تتميز بالثبات والمرونة في نفس الوقت، ثابتة ثبات العقيدة، ومتحركة مع حركة الحياة، تحترم الإنسان وتلبي فطرته، وتنمي عقله، وترتقي بوجدانه، وتطلق ملكاته الإبداعية لإثراء الحياة.

ثالثا: أن المدرسة الإسلامية في الإعلام، وإن كانت أصولها تستند على قواعد معينة في العقيدة لا يجوز التغيير والتبديل فيها، مهما تغيرت الأزمنة وتغيرت الأمكنة، إلا أنها صورة متحركة غير جامدة، تقبل التطور والتجديد بما يتلاءم مع مقتضيات العصر وحاجاته، وحسبما تمليه الحوادث وترسمه الأيام. ذلك أن الإسلام قد حارب الجمود على المألوف، والتقليد الذي يعمي أصحابه عن رؤية الحقيقة، لأن الدعوة الإسلامية لا تتوقف عند بيئة معينة أو زمان معين، ولكنها تتسع لتخاطب الناس في كل زمان ومكان، انطلاقا من صلاحية هـذه الرسالة لكل الأزمنة، وكل الأمكنة، وكل الظروف والمتغيرات.

رابعا: النظام الإعلامي في المنظور الإسلامي ليس نظاما ثيوقراطيا دينيا مقدسا، ولكنه نظام إنساني يقع فيه الخطأ والصواب، ويسمح فيه بالاجتهاد في الرأي، وعرض وجهات النظر المختلفة.

خامسا: يعتبر الإعلام عن الإسلام ركيزة أساسية من ركائز الدعوة الإسلامية، انطلاقا مما ورد في كتاب الله الذي يؤكد على فريضة الدعوة، [ ص: 189 ] والالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبلاغ والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، شريطة عدم الإعلام إلا في حدود الفهم الصحيح، والمعرفة المتعمقة بالمعلومة التي يتم إبلاغها.

سادسا: أن حرية وسائل الإعلام مكفولة، انطلاقا من كفالة حرية التفكير والتعبير وحرية الرأي التي أكدتها الشريعة الإسلامية للإنسان، شريطة عدم المساس بالثوابت وأركان الإسلام الرئيسة التي يجب التسليم بما جاءت به من معطيات.

سابعا: إذا كان الإسلام قد أسس منهجه على كفالة حرية الرأي، كفالة في سبيلها وحدها أحل القتال، ودفاعا عنها أبيح دفع المعتدي حتى لا يفتن أحد في دينه، ولا يظلم أحد بسبب اجتهاده ورأيه، فإن هـذا المنهج ينظم هـذه الحرية وفق قواعد معينة تقوم أساسا على ما يلي:

1 - عدم الخوض في الثوابت من أصول العقيدة، التي أنزلها الحق تبارك وتعالى، كالشهادتين وأركان الدين الخمسة.

2 - عـدم الاجتهاد في المعلـوم من الدين بالضـرورة من أصـول العقيـدة، وما أجمع عليه العلماء الثقات، واتفق عليه جمهور المسلمين من أمور تخص دينهم ودنياهم، كطريقة الصلاة، والمقدار الواجب من الزكاة، وما إلى ذلك.

ثامنا: إذا كانت الشريعة الإسلامية قد كفلت للجماهير حرية التعبير وحق الاتصال، وفرضت عليهم هـذا الواجب، فإنها ألزمت السلطة [ ص: 190 ] بالاستماع لكل صاحب رأي، كما فرضت على كل مسلم ومسلمة الإسهام بفكره وعلمه، وحذرت من استخدام وسائل القمع أو القهر لتكميم الأفواه، وحرمان الإنسان من استخدام حقه في القول، والاجتهاد بالرأي، بمختلف الطرق والوسائل المشروعة.

ونظرا لأن وسائل الإعلام هـي أقوى قنوات الاتصال تأثيرا، وأوسعها انتشارا، فإن هـذه الوسائل تحمل مسئولية مضاعفة، تتمثل في تقديم النصح للحاكم والمحكوم، وإتاحة الفرصة للجميع لاستخدام حقهم المشروع في التعبير والتحرير.

تاسعا: التعبير عن الفكر والاجتهاد بالرأي وممارسة الحرية، يجب أن يتم بأسلوب عذب، وعبارات سلسة، وكلمات رقيقة، مدعومة بالحجة الناصعة، والبرهان القوي، والدليل الواضح، لأن المنهج الإسلامي في الإعلام يستبعد العنف والغلظة والإكراه، ويؤكد على الكلمة الطيبة والمعالجة الموضوعية، ويشجع على الحوار الهادئ، والجدل المنطقي، والعرض المقنع.

عاشرا: المنهج الإسلامي في الإعلام، يرفض الاستبداد الذي تتبناه النظم الاستبدادية والماركسية، كما يرفض الحرية المنفلتة التي تتبناها النظم الليبرالية الغربية.. والاتفاق أو الاختلاف مع هـذه النظم في بعض النقاط، لا يعني تبعية هـذا المنهج لأي نظام من هـذه الأنظمة. [ ص: 191 ]

حادي عشر: ملكية وسائل الإعلام مكفولة للأفراد والمؤسسات والحكومات، ولكنها تخضع لما تقرره الشريعة الإسلامية من قواعد الاقتصاد الإسلامي، حتى لا يداخلها أي شكل من أشكال الربا أو الظلم أو الاحتكار، وحتى لا تحتكر الملكية والكلمة معا فتكون دولة بين الأغنياء، ويهيمن عليها أصحاب النفوذ والسلطان.

ثاني عشر: يصوغ المنهج الإسلامي الضوابط والأخلاقيات التي تحكم نشاط العمل الإعلامي، ويأتي في مقدمتها: الالتزام بالصدق مع النفس ومع الآخرين، فلا اجتهـاد بغيـر معرفـة، ولا فتـوى بغيـر علـم، ولا غيبة أو نميمة، كما يؤكد على الابتعاد عن قذف المحصنات، واتهام الناس بالباطل، وعدم النشر بغير تمحيص وتدقيق، كما يستبعد النفاق، والمجاملة الممقوتة للأفراد أو الحكومات، ويرفض المبالغة في القول، أو التجاوز للحقيقة أو إخفائها أو التغاضي عنها، باستثناء الظروف التي تمر بها الأوطان أوقات الحروب والأزمات، حفاظا على الروح المعنوية، ودرءا للحرب النفسية المعادية.

ثالث عشر: الإعلام في المنظور الإسلامي، يستهدف -أولا وقبل كل شيء- بناء الإنسان، لأن الإنسان هـو الهدف والغاية التي يتمحور حولها هـذا الخلق، لعبادة الله على هـذا الكوكب:

( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56) .

فالصلاة والزكاة، والعمل [ ص: 192 ] والطاقة البشرية كلها موظفة لتحقيق هـذه الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق.. وأي مساس بالإنسان يؤثر على عقله ووجدانه، ويبعده عن الطريق السوي الذي رسمه القرآن وأكدته السنة، مرفوض شكلا وموضوعا، محكوم عليه بالبوار والانهيار. ذلك أن أي استثمار يغفل الإنسان ويتجاهل عقله، هـو استثمار لا قيمة له ولا جدوى من ورائه، لأن هـؤلاء البشر هـم المكون الأساس في بناء الأمم، بسواعدهم تنهض، وبعقولهم يمكن الانتصار في المعارك، وتجاوز الصعاب، والتغلب على المشكلات، واقتحام التحديات، وبناء الحضارات.

رابع عشر: يحفل المنهج الإسلامي في الإعلام، بالعلم والعلماء، ومن ثم فهو يشجع على إعداد الدراسات وإجراء البحوث العلمية في مختلف ميادين النشاط الإعلامي -ولا سيما بحوث الرأي العام- حتى يمكن إعداد الخطط العلمية التي تتوافق مع ظروف الجماهير المتلقية، وتتناسب مع واقعهم الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، وتلبي احتياجاتهم، وتتناول مشكلاتهم، بعد أن أصبحت بحوث الرأي العام هـي المصابيح التي يسترشد بها صناع القرار في وضع السياسات، ومواجهة الأزمات.. وبدون دراسة علمية دقيقة لاتجاهات الجماهير، فإن هـذه الخطط والقرارات سوف تكون مجرد مكاء وتصدية، وقد لا تجد من يعبأ بها أو يهتم بمعطياتها، كما أن هـذه البحوث تسهم في ظهور قيادات إسلامية ديمقراطية، وإبقاء هـذه القيادات على صلة وثيقة بالجماهير. [ ص: 193 ]

خامس عشر: يؤكد المنهج الإسلامي في الإعلام على أهمية الحفاظ على اللغة العربية، وتقويم اللسان العربي، وتصحيح الأخطاء التي ترتكب في حق هـذه اللغة، وحماية الجماهير من الانحراف بها، وذلك من خلال حسن اختيار اللفظ والعبارة، وانتقاء الكلمات الصحيحة الدقيقة، والاهتمام بفن الإلقاء، والقدرة على النطق الصحيح، والحديث السليم، وترسيخ هـذه العادة لدى الأطفال الذين يكتسبون عادات النطق وفن القول في أولى مراحل حياتهم. وتستطيع الإذاعة والتلفزيون -بصفة خاصة- الإسهام الفعال في هـذا الصدد، لأن هـاتين الوسيلتين يمكنهما القيام بدور المدرسة دون التقيد بعدد محدد من التلاميذ [1] سادس عشر: تستطيع قنوات الاتصال تحقيق ديمقراطية المشاركة، من خلال تهيئة المناخ الصالح للحوار والمناقشة بين القيادات والقواعد، لمناقشة قضايا المجتمع، بهدف إزالة عملية التشويش والعقبات التي تقف في سبيل التفاهم، وتأمين حق الاتصال للأفراد، لمنع اللبس وسوء الفهم، عن طريق الشرح والتفسير وتبسيط الأفكار وتقديمها بطريقة جذابة ومفهومة، وإتاحة الفرصة للمعلومات لكي تنساب إلى الناس بسهولة ويسر، ودون معوقات [2] [ ص: 194 ]

سابع عشر: تشير الشواهد العلمية والواقع الملموس إلى أن المنهج الإسلامي في الإعلام،يواجه صعوبات جمة في العمل به، نظرا للمعوقات الكثيرة والعوامل المتعددة التي تقف حجر عثرة في طريق تطبيقه -شأنه في ذلك شأن المنهج الإسلامي في الاقتصاد والتربية والأدب وغير ذلك من المناهج المختلفة التي تصوغ الفكر الإسلامي- فهذه المناهج لم تأخذ فرصتها بعد في الدراسة العلمية المتأنية، كما لم تأخذ سبيلها إلى التطبيق العملي، لاعتبارات سياسية أو أيديولوجية أو إدارية.

ثامن عشر: تتحمل الدول الإسلامية مسئولية إحداث تغيير جذري في النظام الحالي الذي يحكم العلاقات الإعلامية بين الدول المتقدمة والدول الإسلامية، بحيث تكون علاقات محترمة وعادلة، تحقق الحد الأدنى لحقوق الإنسان في الاتصال، بدلا من الهيمنة الفكرية التي تجعل فئة مسيطرة وأخرى خاضعة، مغلوبة على أمرها، وتحدث اختلالا بينا في نشاط وملكية وسائل الاتصال وقنوات الفكر ومصادر المعلومات.

تاسع عشر: تتحمل أجهزة الدعوة والإعلام مسئولية تزويد الجماهير المسلمة وغير المسلمة بحقائق الدين الإسلامي، لحماية الرأي العـام من أخطـار الجهل به، والقضاء على المعتقـدات الخاطئـة والمفاهيـم المغلوطة التي تسود أغلب دول العالم عن الإسلام والمسلمين.. كما تتحمل هـذه الأجهزة مسئولية الحفاظ على صورة الإسلام خارج ديار الإسلام، وتزويد الرأي العام العالمي بالرؤية الإسلامية الصحيحة للقضايا [ ص: 195 ] المعاصرة، وتعريفه بموقف الإسلام من العقائد والأديان والمذاهب الأخرى، وتقديم البديل للمشكلات الدولية التي استعصت على الحل في المجتمعات الأخرى.

عشرون: كشفت الدراسة عن أهمية استثمار معطيات التكنولوجيا المعاصرة في حقل الإعلام والمعلومات، وأهمية استثمار كافة الوسائل المتاحة، لتحقيق أوسع انتشار ممكن لدعوة الإسلام على هـذا الكوكب الذي نعيش فيه، عبر وسائل الإعلام الحديثة والتقنيات المعاصرة، وإقامة مراكز نشطة للدعوة الإسلامية في الخارج تضطلع بمهمة الإعلام عن الإسلام بمختلف الطرق والأساليب، من خلال إقامة جسور من التعاون، وتبادل المعلومات مع أجهزة الإعلام ومراكز المعلومات ووكالات الأنباء الدولية.

حادي وعشرون: تؤكد المستجدات المعاصرة على الساحة الإعلامية، أهمية تأهيل كوادر من العناصر المسلمة والمؤيدة لقضايا الأمة في الداخل والخارج، وتكليفهم بالدعوة إلى الله والإعلام برسالته، نظرا لأن اختيار العناصر المؤمنة والقادرة على تبليغ الرسالة هـو في الحقيقة البداية الصحيحة والركيزة الأساس لنجاح هـذا العمل، ومن ثم يصبح من الأهمية بمكان تخليص هـذه الأجهزة من العناصر المنافقة والضعيفة والمغرضة والكارهة للإسلام وأهله.

والله ولي التوفيق. [ ص: 196 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية