الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إشكاليات العمل الإعلامي (بين الثوابت والمعطيات العصرية)

الأستاذ الدكتور / محي الدين عبد الحليم

خامسا: إشكالية التنصير والتبشير والاستشراق

باستعراض النشاط التنصيري في البلاد الإسلامية، سنجد أن هـذا النشاط لا يختلف في حقيقته وغاياته، ولكنه يختلف من حيث الظهور والخفاء، والزيادة والنقصان، والقوة والضعف، وذلك حسب الوقت الذي يعيش فيه المنصر، ففي المرحلة الأولى -حين كانت البلاد الإسلامية والعربية غير واقعة تحت سيطرة الاستعمار الأوروبي- كان التنصير يسير بتؤدة وبطء، ويتصف بالخفاء.. أما في المرحلة الثانية -حين وقعت تلك الدول تحت سيطرة الاستعمار الأوروبي- فقد أخذ التنصير صفة العلانية تحت حماية الاستعمار، حيث قام المنصرون بتكثيف الجهود لمهاجمة الإسلام علانية، وكان هـدفهم من ذلك هـو توهين الروح المعنوية للمسلمين، وإضعاف العقيدة الدينية في قلوب المؤمنين بها، حيث يستثمر المنصرون أساليب الغزو الحديثة والظروف الاقتصادية [ ص: 111 ] والاجتماعية السائدة في المجتمعات الإسلامية، مستهدفين من وراء ذلك إضعاف العقيدة في قلوب أبنائها -وقد خطوا في ذلك خطوات تدعو المسلمين للأسف على أنفسهم- وهذه الغاية، تشحذ لها المنظمات التنصيرية الجهود الكبيرة، وترصد لها الأموال الطائلة، وتجند لها الأعداد الهائلة من المبشرين. ومهما اختلفت الآراء في نتائج أعمال المنصرين، فإن نزع العقيدة الإسلامية من نفوس أهلها، هـو الهدف الاستراتيجي الذي تسعى الخطط التنصيرية لتحقيقه.

وتدير هـذه الإرساليات أعمالها بتخطيط محكم، ونظام دقيق، وأساليب جذابة، وتقوم ببث أفكارها من خلال برامج اللغات الأوروبية.

هذا وقد دخل المبشرون الكاثوليك ربوع إفريقيا منذ بداية القرن الخامس عشر الميلادي، في أعقاب الكشوف الجغرافية البرتغالية، وتلا ذلك إرساليات التبشير البروتستانتية في إفريقيا الغربية، التي كانت تتم عن طريق جمعية الكنيسة البروتستانتية.. ومنذ عام 1878م اتجهت الإرساليات التبشيرية إلى إفريقيا الوسطى، وانتشرت بعد ذلك في دول المغرب العربي مرافقة للبعثات الطبية والتعليمية والثقافية [1] وقد زاد عدد إرساليات التنصير زيادة كبيرة في تلك المرحلة، وشملت هـذه الزيادة كثيرا من البلاد العربية والإسلامية، وكانت مهمة [ ص: 112 ] تلك الإرساليات هـي إغراء الكثير من الشباب المسلم والفتيات المسلمات الفقراء بالمال، ليتركوا الإسلام ويعتنقوا النصرانية، وقد تحولت أعداد من هـؤلاء الشباب عن الإسلام في أول الأمر، قبل أن يكتشفوا حقيقة المنصرين وغاياتهم، وقد بلغ عدد المنصرين عام 1932م: (98388) منصرا ومنصرة، وكانوا يشرفون على 81 مؤسسة تعليمية، بالإضافة إلى 113 مدرسة وروضة أطفال، و500 مستشفى، و1024 صيدلية، وكان لكل إرسالية تنصيرية -في كل بلد من البلاد الإسلامية والعربية- عدة فروع تعمل حسب خطة ووفق نظام محكم [2] وإذا حاولنا المقارنة بين الإرساليات التبشيرية في القرون الماضية وإرساليات هـذا القرن، نقول: إن الأولى استمدت قوتها من القوى الاستعمارية الغازية لبلاد العالم المختلفة، أما الآن فإن هـذه الإرساليات تقوم بتطوير نفسها كي تتوافق مع الظروف المعاصرة، ولعل أبرز مظاهر هـذا التطور هـو تقديم الخدمات الصحية والتعليمية، بالإضافة إلى المعونات الغذائية والدعم الاقتصادي.

ونضيف إلى جهود المنصرين أعمال المستشرقين، بكل ما تحمله من تداعيات تتـرك آثـارا قويـة على الفكـر الإسـلامي الحديث -أردنا ذلك أم لم نرد- وهو ما لا يجوز تجاهله أو الاكتفاء برفضه، وكأننا بذلك قد [ ص: 113 ] قمنا بحل المشكلة.. إننا لو فعلنا ذلك لكنا كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال، ولهذا فلا بديل عن مواجهة هـذه المشكلة من خلال البحث الدءوب والدراسة الجادة، لمعرفة المؤثرات الحقيقية لموقف الغرب من الإسلام، فالصورة السائدة عن الإسلام اليوم هـناك ليست صورة وقتية أو عارضة، وإنما هـي صورة صاغتها قرون طويلة من الصراع الفكري والتحدي الحضاري.

وفي ضوء ذلك فإن أجهزتنا الإعلامية مطالبة بوضع برنامج علمي سليم يسير في اتجاهين متوازيين: أحدهما يكمن في توضيح المفاهيم الإسلامية الصحيحة، والكشف عن الأخطاء الشائعة حول الدين الإسلامي، والثاني يتم من خلال مناقشة الأفكار الاستشراقية، وإعداد الردود عليها.. والأمر يقتضي إعداد خطة إعلامية جادة للكشف عن الحقائـق، وتعريـة الزيف، ومواجهـة الحمـلات الظالمـة التي تستنـد إلى ما يشيعه بعض المستشرقين -منذ القرون الوسطى- من آراء مغلوطة حول الإسلام والقضايا الإسلامية [3] وتؤدي المنظمات الإذاعية المسيحية الموجهة إلى العالم الإسلامي دورا كبيرا في مجال الإعلام التنصيري الفعال، ومن أبرز هـذه المنظمات [4] : [ ص: 114 ]

1 - الرابطة الدولية الكاثوليكية للراديو التلفزيون.

2 - الرابطة العالمية للإذاعة المسيحية.

3 - الرابطة الدولية للإذاعيين المسيحيين.

4 - المنظمة الدولية للإعلام المسيحي.

5 - راديو الفاتيكان: وهو صوت دولة الفاتيكان الكاثوليكية الرسمي، وقد بدأ إرساله عام 1931م، ويذيع بثلاثين لغة -من بينها اللغة العربية بصفة خاصة- ويوجه بثه إلى الشرق الأوسط والشمال الإفريقي.

6 - صوت الإنجيل Voice of Gospel: وتبث هـذه الإذاعة برامجها من أديس أبابا عاصمة إثيوبيا، ويوجد لها استوديوهات في نيجيريا وتنزانيا والكاميرون ومالاجاش وأديس أبابا، وتبث هـذه الإذاعة 20 ساعة يوميا باللغة العربية، مما يكشف عن توجهاتها التي تستهدف المسلمين العرب والأفارقة.

7 - إذاعة (بالحب الأبدي نكسب إفريقيا) : Eternal Love Winning Africa، وهي من أشهر الإذاعات المسيحية الموجهة إلى إفريقيا [5] [ ص: 115 ]

8 - إذاعة مونت كارلو: وهي إذاعة تبدو في ظاهرها مجرد إذاعة تجارية، لكنها في حقيقة الأمر إذاعة لها توجهاتها السياسية المعادية، والتبشيرية الواضحة، وهي إذاعة سرية سوداء، تتسلل إلى عقول المستمعين في وقت متأخر من الليل، وتجعل من بثها العادي أشبه بالمباريات الفنية الترفيهية الجذابة، وتتميز بالسرعة والحيوية، مع تفريغ المضمون الإعلامي من أية توجهات ذات مغزى إيجابي، بل إن هـذا المضمون يفقد المواطن هـويته وانتماءه إلى بيئته، وينحاز إلى جانب السطحية واللامبالاة، فيرقص ويغني الأغاني الأجنبية متخليا عن تراثه وثقافته، ثم يتحول بعد ذلك إلى مسخ مشوه.

وتقوم تلك الإذاعة بتحويل المستمعين عن إذاعاتهم القومية والوطنية إلى تلك الإذاعة التي تقدم لهم دعوة مفتوحة لإضاعة الوقت والاستهلاك الترفي، وتبلغ قوة هـذه المحطة 1400 كيلووات، وتستخدم 30 لغة على مدى 24 ساعة، تذيع منها سبع عشرة ساعة كاملة باللغة العربية، مما يؤكد أن جمهورها المستهدف هـو المنطقة الإسلامية بصفة عام والمنطقة العربية بصفة خاصة.. ولهذه المحطة محطة ترحيل Relay Station في الشرق الأوسط، وقد كان مقرها لبنان، ثم انتقلت إلى قبرص عام 1977م، بسب أحداث الحرب الأهلية اللبنانية التي نشبت عام 1975م، وهذه الإذاعة مملوكة للحكومة الفرنسية، وكانت في البداية مجرد إذاعة [ ص: 116 ] إعلانات وموسيقى غربية وشرقية وأغان، لكنها تذيع الأخبار والتحقيقات والتمثيليات والتعليقات السياسية وبرامج المنوعات [6] 10 - إذاعة صوت طنجة: وهذه الإذاعة من أوائل الإذاعات التي قامت بتوجيه برامج تبشيرية باللغة العربية إلى الناطقين بها، وقد بدأت بثها من مدينة طنجة بالمملكة المغربية عام 1954م، على يد أحد القساوسة الأمريكيين الذين عملوا بالتبشير في الدول العربية، واستخدمت جهاز إرسال قوته 10 كيلووات مستهدفة الوصول إلى إفريقيا، وقد حل محلها اليوم راديو عبر العالم Trans World Radio، وتقوم بالبث من إذاعة مونت كارلو، مما يشير إلى نشاطها التنصيري [7] 11 - راديو إلوا Elwa: وقد أنشأت هـذه المحطة بعثة تبشيرية أمريكية عام 1954م، واتخذت من مونروفيا عاصمة ليبيريا مقرا لها، وتذيع هـذه المحطة بأكثر من خمسين لغة، ويغلب على جميع برامجها الصفة الدينية المسيحية، كما أقامت عام 1968م محطتين جديدتين لتقوية إرسالها الموجه للمنطقة العربية والإسلامية، وتقوم هـذه المحطة بإنتاج برامج لمحطات تبشيرية أخرى توجه برامجها إلى المنطقة العربية [8] وهذا يؤكد أن العالم الإسلامي محاط من كل جانب بإذاعات دولية موجهة تستهدف الإنسان المسلم أساسا.. ولم يتوقف هـذا الحصار يوما، [ ص: 117 ] بل لقد دخلت الإذاعة المرئية الساحة بكل قوة، باستخدام كل جديد في عالم الاتصال، ومنها [9] :

1 - الشبكة العالمية الأمريكية World Net.

2 - اتحاد الإذاعات الأوروبية Univision U. V.

3 - القناة الفرنسية C.F.I

4 - شبكة الأخبار الأمريكية C.N.N

5 - تلفزيون الإذاعة العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية World Service Television W. S. T : وهي شبكة إخبارية مثل شبكة CNN تشترط على الدول التي لها الحق في نقل برامجها ألا تقوم بأية أعمال رقابية على هـذه المواد، وقد بدأ إرسال الشبكة الإنجليزية بإرسال مدته ساعتان، وابتداء من 15 نوفمبر 1991م أصبح الإرسال يتم لمدة أربع وعشرين ساعة، مع إمكانات البث الأرضي والكابلي والأقمار الصناعية.

وتستهدف هـذه القنوات: تنشيط التعاون بين المؤسسات الإذاعية والتلفزيونية التنصيرية في مختلف المجالات، وتوسيع نطاق عملها، وتحقيق التعاون بينها، وإتاحة الفرصة لمناقشة قضاياها المشتركة، وتفعيل جهودها الرامية إلى نشر الديانة المسيحية عن طريق إعداد الدراسات وإجراء الأبحاث التي تحقق لها الفاعلية. [ ص: 118 ]

وتعمل هـذه المؤسسات بتوجيه من مراكز الاستديوهات والإنتاج والأقسام الدينية في الإذاعات الحكومية والإذاعات الدولية المسيحية.. ومن أبرز مراكز واستديوهات الإنتاج التي تضطلع بهذا الدور: مركز الإنتاج الموجود في زامبيا، ويقوم بإعداد المواد الدينية اللازمة لجميع وسائل الاتصال، وقد أنشأته الهيئة التبشيرية عام 1970م، ويعمل بالتنسيق مع حكومة زامبيا والهيئات الكنسية المحلية والدولية; ومركز (تلبستار ) في زائير، ويقوم بإنتاج برامج تنموية في مجالات التعليم والصحة والزراعة من منظور مسيحي، ويضم قسمين، أحدهما لإنتاج مواد الراديو، والآخر لإنتاج مواد الفيديو [10] أما بالنسبة لاستديوهات الإنتاج، فهي استديوهات مجهزة تجهيزا كاملا، وموجودة في المناطق المستهدفة، وتختص بإنتاج المواد الإعلامية، وإرسالها إلى المحطات الإذاعية كي تذيعها في تلك المناطق.

ويوجد قسم ديني في معظم إذاعات الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء، يعمل بالتنسيق مع المسئولين عن التبشير في البلاد المستهدفة، ويضطلع الإعلاميون في هـذه الأقسام بمهامهم متعاونين في ذلك مع المبشرين الذين تلقوا تعليما دينيا داخل إفريقيا أو خارجها. [ ص: 119 ]

وإلى جانب الإذاعات الدينية تقوم المؤسسات الكنسية في الدول الإسلامية بالنشاط التبشيري من خلال الخدمات الاجتماعية، وتوزيع المنشورات والكتب، وإصدار الصحف المسيحية.

وفي المقابل فإننا إذا استعرضنا أحوال وسائل الإعلام في البلاد الإسلامية، سنجد أنها تعتمد على الفكر الأجنبي، وهي وسائل غير قادرة على المواجهة وتصحيح الصورة النمطية الخاطئة عن الإسلام والمسلمين في العالم، مما جعل العالم الإسلامي، يتم حصاره بمجموعة من الإذاعات المسموعة والمرئية التي تنفذ أدوارا مخططة للتبشير والتشكيك في العقيدة، والافتراء على الواقع الإسلامي، بهدف القضاء على المشروع الإسلامي الحضاري الذي تتبناه الأمة.

وإذا أضفنا إلى ذلك الرسائل، التي تبثها الشبكات العالمية التابعة للدول المعادية للإسلام والمسلمين، سيتضح لنا حجم الضغوط الدولية التي تعمل على طمس الهوية الإسلامية، وتفريغ الإنسان المسلم من جوهره، وقطع الروابط الدينية بينه وبين أصوله.

وقد وجهت هـيئة الإغاثة العالمية نداء إلى جميع المسلمين في العالم أن يتعاونوا لإنقاذ إفريقيا المسلمة من خطر التنصير، ويذكر النداء أن نسبة المسلمين في (مالاوي ) قد انخفضت من 70% إلى 30% نتيجة الحملات التبشيرية، وأن مركز التبشير في (داكار ) عاصمة السنغال [ ص: 120 ] وحدها يعمل به 25.000 ألف قسيس وراهب، وأن هـناك 65 مليون مسلم في إفريقيا معرضون للارتداد عن الدين الإسلامي، بسبب المجاعات والأمراض، وغيبة الدعاة، وغيبة الإعلام الإسلامي[11] وهكذا يتضح لنا مدى بشاعة الخطر المحدق الذي تتعرض له الأمة الإسلامية، نضعه أمام صناع القرار الإعلامي في العالم الإسلامي، كي يتحملوا مسئولياتهم الدقيقة في هـذا الصدد، ويستثمروا الطاقات المتاحة والإمكانات الممكنة لمواجهة هـذه الأخطار المحدقة بالإسلام والمسلمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية