الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إشكاليات العمل الإعلامي (بين الثوابت والمعطيات العصرية)

الأستاذ الدكتور / محي الدين عبد الحليم

ثانيا: إشكالية البث المباشر والغزو الثقافي

ويرتبط بقضية التكنولوجيا قضية أخرى فرضت نفسها مؤخرا على الساحة الإعلامية، وهي إشكالية البث المباشر عبر الأقمار الصناعية، لكي تشكل غزوا جديدا لن تفلح الرقابة والمنع في مواجهته.

وتقوم فكرة البث المباشر على أساس إشارات إلى القمر الصناعي ليقوم بدوره بتقويتها، ثم إعادة بثها لا إلى المحطات الأرضية، ولكن إلى المنازل مباشرة عبر هـوائيات صغيرة متوسط قطرها 75سم.. وتعمل أقمار البث في نطاق ترددات 12 / 14 ميجاهرتز، وقد أثار الاتجاه إلى البث التلفزيوني المباشر على النطاق الدولي الكثير من المشكلات ذات الأبعاد الفكرية والقانونية والسياسية [1] ومع بدء الاستخدام المكثف للأقمار الصناعية، حاول المجتمع الدولي وضع ضوابط لمنع الاستخدام غير الرشيد للتوابع الصناعية، إلا أن الاستخدام الفوضوي للفضاء الخارجي ما يزال مستمرا، مما يزيد من هـيمنة الدول المتقدمة على وسائل الاتصال الدولية، ومراكز المعلومات، ووكالات الأنباء، وأجهزة صناعة الفكر في العالم. [ ص: 101 ]

ويرجع ذلك إلى تمسك الدول المتقدمة بقواعد وضعت في عهد الاستعمار تنص على ما يسمى بالحق المكتسب، أي حق كل دولة في الاحتفاظ بالترددات التي حصلت عليها من قبل، حتى ولو كانت من حق دولة أخرى، مما يرسخ تبعيتها الإعلامية للعالم الغربي، لا سيما وقد تم توزيع ترددات الطيف الكهرومغناطيسي في اتفاقات دولية أبرمت في غيبة معظم الدول الإسلامية، التي لم يترك لها إلا الفتات الذي لا يمكن أن يشبع احتياجاتهـا الإعلاميـة، لا من حيث تغطيـة ترابهـا الوطني، ولا من حيث قدرتها على الاتصال بالدول الأخرى، ولا من حيث إشباع احتياجات ومتطلبات التنمية، فضلا عما يمثله ذلك من إجحاف لطرق استغلال الفضاء الجوي، وبهذا تصبح الدول الإسلامية والعربية هـدفا سهلا للغزو الثقافي.

ونستطيع أن نقرر هـنا أن الدول العربية والإسلامية لم تنجح حتى الآن في وضع سياسة إعلامية تترجم هـويتنا الثقافية، ومعطياتنا الحضارية، وتوجهاتنا التربوية، على أسس من عقيدتنا وقيمنا وآمالنا في مواجهة هـذه الهيمنة، ولم تستطع أن تحدد موقفها من العالم الذي أصبح يؤثر فيها، بدلا من أن تؤثر هـي فيه بسمو عقيدتها ونبل أخلاقها وسماحة دينها.

وسوف تؤثر البرامج التي تحمل الأفكار والعقائد الفاسدة -دون شك- على نفسية الجماهير وشخصياتهم من خلال انتشار المفاهيم [ ص: 102 ] الاجتماعية والسلوكية الغريبة، وسيكون هـذا التأثير كبيرا على الأطفال والصبية في مراحل الطفولة الأولى، لأن تعرض أطفالنا إلى سيل لا ينقطع من مشاهد العنف والجنس والجريمة، إضافة إلى العقائد الفاسدة والأفكار المنحرفة التي تحملها رسائل البث المباشر، سوف يترك بصماته على سلوك أبناء المسلمين، سواء رضوا ذلك أو لم يرضوا به، وقد يدفعهم ذلك إلى التصرفات غير المسئولة والأعمال العدوانية بفعل غريزة التقليد والمحاكاة.

ومن أبرز أخطار البث المباشر، تأثيره على أخلاقيات وسلوكيات الجماهير في الدول الإسلامية المستقبلة له، وإثارة الطموحات الاستهلاكية لدى مواطنيها، وهي طموحات يصعب إشباعها في ضوء الموارد المتاحة.. كما أن هـذا البث من شأنه أن يزيد الخلل القائم في تدفق المعلومات بين الدول التي تملك والدول التي لا تملك، والتي يقتصر دورها على التلقي مع عدم القدرة على إيصال ما لديها إلى الآخرين، إضافة إلى تهديد هـويتها الدينية والثقافية.

وتمارس الدول الكبرى الدعاية الثقافية من خلال مؤسسات تعليمية وثقافية تخدم هـذا الغرض، وعلى سبيل المثال فإن الولايات المتحدة تمارس الدعاية الثقافية من خلال هـيئة الاستعلامات الأمريكية، والمكتبات التي تقيمها في عدد من الدول الأجنبية، بالإضافة إلى نشر النظم التعليمية الأمريكية واللغة الإنجليزية، وتقديم المنح الدراسية، واستيعاب طلاب [ ص: 103 ] الدول الأخرى في الجامعات والمؤسسات التعليمية الأمريكية، إضافة إلى الأنشطة الثقافية الأخرى التي تمارسها الولايات المتحدة مع هـذه الدول [2] وهذا بدوره يقودنا إلى الحديث عن الإعلام ومفهوم الأمن، فالأمن في المجتمعات الحديثة لم يعد قضية بوليسية في المقام الأول، ولكنه أصبح قضية متشابكة يتبوأ الإعلام أبرز ركائزها.. وقد أثيرت هـذه المشكلة بأبعادها المختلفة بعد انتقال هـذا البث من مجرد تطبيقات محدودة إلى الانتشار الواسع عبر العالم كله.

وفي الحقيقة، أن مواجهة الغزو الثقافي لن يكتب لها النجاح إلا من خلال تحصين الجماهير ضد هـذا الغزو، وإصلاح أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي، لتكون في الوضع الذي يمكنها من الوقوف في مواجهة عمليات الإبهار والجذب الشديد الذي تمارسه قنوات البث الفضائية الأجنبية، بكل ما تملك من تقنيات عالية وتكنولوجيا متقدمة.

إلا أنه على الرغم من ذلك، ومع التطور الكبير في تكنولوجيا الأقمار الصناعية، فإن الفرصة لا تزال متاحة لإطلاق أقمار البث المباشر التي تخدم الإسلام والمسلمين.

والدول الإسلامية تستطيع أن تستثمر شبكات الأقمار الصناعية والبث التلفزيوني المباشر وغير المباشر في مجال تبادل الخبرات، وتدريس [ ص: 104 ] اللغات، وتدريب المعلمين، وتعليم الكبار، ومحو الأمية، والتدريب المهني، والإرشاد الزراعي والصحي، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتبادل البرامـج الثقافيـة والفنيـة، كما يمكـن استخدام إمكانـات هـذه الشبكات في تذليل العقبات التي تعترض سبيل الخدمة التعليمية، خاصة في المناطق الريفية والنائية، وذلك إذا خلصت النوايا، وتوحدت الجهود، وبدأت هـذه الدول بلا تردد أو توجس في الإعداد للمستقبل [3] إنه من الأهمية بمكان السعي إلى امتلاك وإنشاء الشبكات الإعلامية الخاصة بعالمنا الإسلامي، وإمدادها بالكفاءات المدربة لتواجه بها منافسة الشبكات العالمية، وعدم ترك الساحة خالية لوسائل البث الوافد من الخارج، حتى يستطيع المتلقي المسلم أن يقارن بين الغث والسمين من البرامج، وحتى نستطيع أن نفتح أمام الأجيال الجديدة أبوابا جديدة للمعرفة والثقافة، فالبث عبر الأقمار الصناعية في هـذه الحالة لن يكون شرا كله، بل يمكـن أن يكـون مفيـدا إذا ما أعرض المشاهـد بإرادتـه عما يخدش الحياء، وما لا يتفق مع عاداته وتقاليده وعقائده، ويقبل على ما يراه مفيدا ونافعا، ولن يتأتى ذلك إلا في حالة وجود البديل الأقوى تأثيرا والأشد جاذبية. [ ص: 105 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية