معيار التذكير بالإنكار
اختلفت عبارات أهل العلم في معيار التذكير بالإنكار في المسائل المختلف فيها [1] على عدة أقوال، منها:
القول الأول: معيار الإنكار هـو ما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه
ذهب إلى هـذا الرأي الإمام أبو الحسن علي بن محمد الماوردي ومثله أبو يعلى الفراء ، فقد قال الماوردي : «وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته فلا مدخل في إنكاره، إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه...» [2] .
ولكن الماوردي أورد فرقا بين ما إذا كان المنكر له ولاية الاحتساب أم لا، فقال: «واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي : هـل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده، أم لا؟ على وجهين؛ أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري : أن له أن يحمل ذلك على رأيه واجتهاده، فعلى هـذا يجب على المحتسب أن يكون عالما من أهل الاجتهاد في أحكام الدين؛ ليجتهد رأيه فيما اختلف فيه. والوجه الثاني: ليس له أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده، ولا يقودهم إلى مذهبه؛ لتسويغ الاجتهاد للكافة، فيما اختلف فيه، فعلى هـذا يجوز أن يكون [ ص: 64 ] المحتسب من غير أهل الاجتهاد إذا كان عارفا بالمنكرات المتفق عليها» [3] .
ونص صاحب الفروع على مثل هـذا، فقال: «فقد بينا الأمر على أن مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها، وفي كلام أحمـد أو بعض الأصحـاب ما يدل على أنه إن ضعف الخلاف فيها أنكر، وإلا فلا.. وللشافعية أيضا خلاف، فلهم وجهان في الإنكار على من كشف فخذيه» [4] ، وذكر تفصيلا لفروع كثيرة وردت فيها نصوص، وضعف الخلاف فيها، ونقل عن عدد من أئمة الشافعية والحنابلة الإنكار فيها.
واعتبار أن يكون الخلاف ضعيفا لحدوث الإنكار هـو ما عبروا عنه بقولهم: فليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر [5]
فإن كان معتبرا لم ينكر على صاحبه إن تبادل الطرفان بيان الحجة، وإقناع المستفتي بما عندهما من أدلة.
فتحصل من هـذا:
1 - أن عبارة الماوردي تدل على ترك الإنكار في المختلف فيه حيث قال: «ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته» ، لكن استثناءه دال على أنه يريد أن ثمة مسائل خاصة من مسائل الخلاف لا بد من إنكار القول [ ص: 65 ] الآخر فيها إن كان ضعيفا أو شاذا، وأن بعض مسائل الخلاف التي يقوى فيها دليل كل طرف فلا إنكار فيها، ولنصطلح على تسمية هـذا النوع الذي يقوى الخلاف فيه بـ: «مسائل الاجتهاد»، وذلك لأن إجهاد الذهن فيها مطلوب لمعرفة أقرب الأقوال إلى نص الشارع ومقاصد التنـزيل والشريعة؛ لعدم ظهور نص أو إجماع أو قياس جلي فيها.
2 - أن الإنكار المنفي هـنا إنما هـو عن غير من له ولاية الحسـبة، فأما من له ولاية الحسبة فله حق الإنكار على أحد الوجهين، لما يترجح عنده أنه منكر.
3 - أن ما ضعف الخلاف فيه ينكر، وهذا يدل على تقسيمهم مسائل الخلاف إلى قسمين، وإن لم يصطلح أهل العلم هـنا على تسمية مستقلة لكل قسم.
القول الثاني: معيار الإنكار في مسائل الخلاف هـو مذهب المحتسب عليه
وصرح بهذا الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- حين ذهب إلى أن من شـروط الإنكار: «...أن يكون كونه منكرا معلوما بغير اجتهاد، فكل ما هـو في محل الاجتهاد فلا حسبة. فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ غير المسكر، وتناوله ميراث ذوي الأرحام، وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار. نعم لو رأى الشافعي شافعيا يشرب النبيذ، وينكح بلا ولي ويطأ زوجته فهذا في محل النظر، والأظهر أن له الحسبة [ ص: 66 ] والإنكار ... » [6] ، وتابعه الشيخ زكريا الأنصاري في كتابه: «أسنى المطالب»، إلا أنه استثنى من ناحية عملية بعض المسائل المختلف فيها؛ كشرب النبيذ فإن «أدلة عدم تحريمه واهية» [7] ، على حد تعبيره، وهذا يدل على شعوره بأن قاعدة ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) لا تنطبق على كل مسألة مختلف فيها.
وبذلك فإن الإمام الغزالي يرى:
1 - أن من شروط الإنكار: أن يكون المنكر معلوما. ولكن كلمة (معلوما) ليست واضحة هـنا: فهل المراد بها ورود نص قطـعي الدلالـة، أو يكفي أن تكون دلالته ظاهرة؟
2 - أن ما هـو محل الاجتهاد فلا حسبة فيه.
3 - أنه ليس لأحد أن ينكر على أحد فعله ما دام مباحا في مذهب الفاعل.
4 - أنه يجب على كل مقلد اتباع مذهب مقلده، فإن خالفه أنكر عليه في الأظهر.
5 - أن معيار التذكير بالإنكار الفعلي والقولي هـو المذهب، فمن فعل شيئا رآه جائزا في مذهبه فلا ينكر عليه، وإن كان مخالفا لظاهر النص.
على أن الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- قد بنى مذهبه هـذا على أن كل مجتهد مصيب في المسائل الفقهية، حيث قسم المسائل العلمية الشرعية إلى: المسائل الفقهية وهي أحكام الحل والحرمة، التي يتصور أن يقال فيها ( كل [ ص: 67 ] مجتهد مصيب ) ، والمسائل العلمية العقدية والعقلية التي لا يتصور فيها ذلك [8] .
وواضح أنه إذا سلمنا بعدم مجانبة هـذا القول للنص الشرعي الآمر عند التنازع بالرد إلى الكتاب والسنة فإن أقل ما يمكن أن يقـال فيه: إنه مخالف لما اشتهر من إنكار الصحابة بعضهم على بعض -مما سترد أمثلة له إن شاء الله تعالى- بل لفعل الفقهاء حيث يرد بعضهم قول بعض عند مناقشة كثير من مسائل الفقه، كما هـو ظاهر في كتب علم الكلام أو علم الأصول، أو علم الفقه المسمى بعلم الفروع.
والظاهر أن هـذا غير غائب عن الإمام رحمه الله، فلعله أراد بالإنكار هـنا التغييـر باليد، وأما باللسـان فأقل الحالات أنه لا بأس ببيان كون المختلف فيه منكرا عند القائل به على سـبيل الإقناع والإرشـاد، وبيان الدليل من غير اصطحاب توبيخ أو تقريع. ولذا فإن أكثر الشافعية يرون حد الحنفي إذا شرب نبيذا، لضعف أدلته [9] .
القول الثالث: معيار الإنكار مذهب المحتسب عليه إلا في حالات استثنائية أهمها بعد المأخذ
وإليه ذهب الإمام السيوطي ، فقد قال في كتابه الأشـباه والنظائر: «لا ينكر المختلف فيه، وإنـما ينكر المجمع عليه [10] ، وتستثنى صور ينكر فيها المختلف فيه:
إحداها: أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقض، ومن ثم وجب الحد على المرتهن بوطئه المرهونة، ولم ينظر لخلاف عطاء . [ ص: 68 ] الثانية: أن يترافع فيه لحاكم فيحكم بعقيدته، ولهذا يحد الحنفي بشرب النبيذ إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده.
الثالثة: أن يكون للمنكر فيه حق؛ كالزوج يمنع زوجته من شرب النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته وكذلك الذمية على الصحيح» [11] .
وضعف المأخذ هـو ما ارتضاه العز بن عبد السلام معيارا للإنكار في المختلف فيه [12] .
وذهب إلى شيء قريب من هـذا الإمام القرافي ، فإنه مال إلى اعتبار مذهب المحتسب عليه هـو معيار الإنكار، «إلا أن يكون مدرك القول بالتحليل ضعيفا جدا ينقض قضاء القاضي بمثله؛ لبطلانه في الشرع كواطئ الجارية بالإباحة معتقدا لمذهب عطاء ، وشـارب النبيذ معتـقدا مذهب أبي حنيفة». وأرشد إلى وجود نوع من المسائل تكون أقل درجة في الإنكار من غيرها من الخلافيات، فقال: «وإن لم يكن معتقدا تحريما، ولا تحليلا، والمدارك في التحريم والتحليل متقاربة أرشد للترك برفق من غير إنكار وتوبيخ؛ لأنه من باب الورع المندوب، والأمر بالمندوبات والنهي عن المنكرات هـكذا شأنهما الإرشاد من غير توبيخ» [13] .
وبالنظر إلى الترتيب الزمني للأئمة السابقين، نلحظ أن قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) قد قيدها الماوردي والفراء ، ثم ذكر الغزالي ما يشبه [ ص: 69 ] الإطلاق فيها، مع أنه قيدها بمسائل الأصول فيتم فيها الإنكار عنده، ثم عاد القرافي وابن مفلح والسيوطي فقيدوها، ومنعوا إطلاقها.
كما نلحظ أن السيوطي ذهب إلى أن مذهب أحد الطرفين إن كان بعيدا شرع الإنكار، وهذا مساو تماما لما في القول الأول من مشروعية الإنكار عند ضعف الخلاف.
القول الرابـع: رأي الإمـام عبد الله بن سـليمان الجرهزي (ت 1035هـ) [14]
فقد ذكر كلام السيوطي وزاد عليه مجموعة زيادات، ولذا يمكن أن نعد كلامه رأيا رابعا، وتتلخص هـذه الزيادات في التالي [15] :
1 - بين نوع الإنكار المنفي في قولهم (لا ينكر المختلف فيه) ، فالإنكار المنفي إنما هـو «باعتبار الإنكار الواجب، أما المندوب فيندب حتى في المختلف فيه برفق»، ومعنى ذلك «أن الإنكار المندوب لا ينفى عن المختلف فيه؛ بل يثبت لكل منكر أي حرام مجمع على حرمته، أو مختلف فيه، فيطلب ويدعى على وجه النصيحة إلى الخروج من الخلاف».
2 - هـذا الإنكار المنفي (الإنكار الواجب، الإنكار باليد) عن المختلف فيه إنما هـو لغير المحتسب الذي نصبه الإمام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما المحتسب «فينكر وجوبا، على أن من أخل بشيء [ ص: 70 ] من الشعائر الظاهرة ولو سنة كصلاة العيد، والأذان [16] ، فيلزمه الأمر بهما»، وكون الحاكم له حق الإنكار في المختلف فيه ذكره صاحب «البحر الزخار»؛ إذ لا يد فوق يده وعموم ولايته [17] .
ويلحظ مما سبق أن أيا من الفقهاء لم يصرح بأن المعيار المعتبر هـو النص، بل حقيقـة قولهم أن جعلوا نص المذهب مقدما على النص الإلهي أو النبوي الصحيح، وذلك لا لأن نصوص المذاهب تخالف النص، بل لأنه قد صار من المعلوم بالضرورة أن نصوص المذاهب ووجوهها وطرقها إن هـي إلا محاولات استنباطية للحوادث والمسائل الفقهية من النص، وإن كان التعبير -عند بعضهم- عن هـذه المسألة بـ: «الإلزام المذهبي» مع أنه نص في النهاية غير سائغ من الناحية (المنهجية) الأدبية والعلمية أمام النص، على أنه يوجد في نصوص المذاهب اختلافات تعبر عنها الوجوه والطرق والاختيارات تئول في الأخير إلى الاختلاف في فهم النص، فلماذا تعسير الطريق والرجوع إلى نص غير معصـوم تعددت وجوهه؛ لما فيه من خلاف في المذهب الواحد؟
ولا يفهم من هـذه الملحوظة أن الأئمة يقدمون النص المذهبي على النص؛ بل المحمل الحسن الواجب لهم -وهو الواقع منهم- هـو اعتقاد أن النص المذهبي يعبر عن الفهم للنص، فذهبوا إليه مباشرة دون أن يعبروا عن ذلك بالقول مثلا: معيار الإنكار هـو مذهب المحتسب عليه في فهمه للنص. [ ص: 71 ] وتدل العبارات الواردة في كلام الأئمة، من مثل: «أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقض، (أن يكون الخلاف ضعيفا) ، (ألا يكون معتبرا) ، (وهو ما ليس له حظ من النظر ... ) » على معنى واحد هـو أن الإنكار في المختلف فيه ينتفي إن كان الخلاف قويا، ويثبت إذا كان الخلاف ضعيفا (غير معتبر، بعيد المأخذ...) ، ولكن الإشكال هـو في معيار الضعف، فقد يكون الخلاف عندك ضعيفا، وعند غيرك قويا.
ومع ذلك فإن إجماع الأئمة منعقد على عدم الأخذ بإطلاق هـذه القاعدة ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) ، وعلى عدم اعتبار الخلاف حكما.
فهم [18] لم يجمعوا على معيار محدد في الإنكار لفظيا، حيث اختلفت عباراتهم فيه، ونلحظ أنه كلما تأخر عهد العالم كان أشد احترازا في ضبط القاعدة، وهو يثبت ما تقدم من أن الوضع البشري يعتريه القصور في التعبير عن القاعدة، وعلى الرغم من ذلك فإن حاصل المذاهب السابقة يكاد يكون واحدا، يتلخص في أن معيار الإنكار هـو مذهب المحتسب عليه، إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه.
ومما يدل على عدم الأخذ بإطلاق قاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) ، وعلى عدم اعتبار الخلاف حكما، أنه يقف حائلا بين هـذا الرأي الذي يجعل للمذهب اعتبارا في الإنكار وبين صدق تطبيقه، أن كل خلاف مروي في كتب الفقه لا يعد خلافا، فهناك عدد لا يستهان به من مسائل الخلاف إنما ينقل فيه قول المخالف احتمالا؛ أي سمع عن فلان أنه قاله [ ص: 72 ] نقلا عن صاحبه، وبينهما قرون، أو نقله أحدهم في كتاب عن صاحبه، والسند منقطع أو معضل بينهما، وقد يكون الانقطاع لأجيال، أو تقوله عليه لغل شخصي. وقد يورده أحدهم تخريجا [19] ، أو احتمالا دون تأكد من صحة الخلاف عنه، ولا وسيلة للتثبت من قوله فيه، فلماذا نجعل المسألة متعلقة بخلاف فلان، وليس عندنا ما يدل على أنه خالف حقيقة.
ومن أمثلة هـذا ما عزاه بعضهم إلى سفيان الثوري -رحمه الله- من جواز إمامة المرأة للرجال، وما عزاه آخرون إلى الإمام الطبري من جواز كون المرأة قاضية مطلقا في الحدود وغيرها، وما ذكروه عن أبي حنيفة من جواز درء الحد عن واطئ الخادمة، وما ذكروه عن أبي جعفر الطحاوي أنه أجاز الشرب من المسكر ما لم يسـكر، أو ما نسب إلى أبي الخطاب ابن دحية أنه أفتى بقصر المغرب في السـفر ركعتين [20] ، ونحـو ذلك مما يوجد في كتب الفروع الموسعة.
ويذهب ابن تيمية إلى أن ذلك يعود إلى أن: «القول المحكي قد يسمع من قائل لم يضبطه، وقد يكون القائل نفسه لم يحرر قولهم بل يذكر كلاما مجملا يتناول النقيضين ولا يميز فيه بين لوازم أحدهما ولوازم الآخر، فيحكيه الحاكي مفصلا ولا يجمله إجمال القائل، ثم إذا فصله يذكر لوازم أحدهما دون ما يعارضها ويناقضها مع اشتمال الكلام على النوعين المتناقضين أو احتماله لهما أيضا، وقد يحكيه الحاكي باللوازم التي لم يلتزمها [ ص: 73 ] القائل نفسـه، وما كل من قـال قولا التزم لوازمـه، بل عامـة الخلق لا يلتزمون لوازم أقوالهم» [21] . ويقول عن نقل بعضهم: «وكثير من ذلك لم يحرر في أقوال المنقول عنهم، ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله بل هـو ينقل من كتب من صنف المقالات قبله» [22] .
كما ذهب ابن القيم إلى أنه: «كثيرا ما يحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له، وكثير من المسائل يخرجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعة مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تفضي إلى ذلك لما التزمها، وأيضا فلازم المذهب ليس بمذهب وإن كان لازم النص حقا؛ لأن الشارع لا يجوز عليه التناقض، فلازم قوله حق، وأما من عداه فلا يمتنع عليه أن يقول الشيء ويخفى عليه لازمه، ولو علم أن هـذا لازمه لما قاله، فلا يجوز أن يقال هـذا مذهبه، ويقوله ما لم يقله» [23] .
ومما يمكن أن يضاف أيضا إلى أدلة عدم الأخذ بإطلاق هـذه القاعدة، وعلى عدم اعتبار الخلاف حكما: أن خلاف العالم فـي مسألة ما قد تكون من زلات أهل العلم، أو من شواذ الأقوال، وهو ما حذر منه أهل العلم قديما وحديثا، وقد يستمرئ العالم زلته وهو لا يشعر، ولا ينقص ذلك من قدره لطبيعته البشرية، وهذا ما حذر منه الراشدون، فقد " قال عمر رضي الله عنه : «ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون» " ، " وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : «إن مما أخشى عليكم زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، [ ص: 74 ] والقرآن حق، وعلى القرآن منار كأعلام الطريق» " [24] .
ومن أمثلة ذلك بيان ابن عباس رضي الله عنهما لزلة غيره، " فقد روى عكرمة عن ابن عباس : قال في مسألة فقهية قال فيها ابن مسعود بقول ما قالها ابن مسعود، وإن يكن قالها فزلة من عالم، في الرجل يقول: إذا تزوجت فلانة فهي طالق، قال الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ) ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن. " ورواه البيهقي من طريقه من وجه آخر " عن سعيد بن جبير : سئل ابن عباس عن الرجل يقول: إذا تزوجت فلانة فهي طالق، قال: ليس بشيء إنما الطلاق لما ملك، قالوا فابن مسعود قال: إذا وقت وقتا فهو كما قال. قال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، لو كان كما قال لقال الله: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن. " [25] .
ومن ذلك أيضا " ما رواه أبو مسـلم الخولاني أنه قدم العراق فجلس إلى رفقة فيها ابن مسـعود فـتذاكروا الإيمان، فقلت: أنا مؤمن. فقال ابن مسعود: أتشهد أنك في الجنة؟ فقلت: لا أدري مما يحدث الليل والنهار. فقال ابن مسـعود: لو شهدت أني مؤمن لشهدت أني في الجنة. قال أبو مسلم فقلت: يا ابن مسـعود، ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه [ ص: 75 ] على ثلاثة أصناف: مؤمن السريرة مؤمن العلانية، كافر السرير كافر العلانية، مؤمن العلانية كافر السريرة؟ قال: نعم. قلت: فمن أيهم أنت؟ قال: أنا مؤمن السريرة مؤمن العلانية. قال أبو مسلم قلت: وقد أنزل الله عز وجل: ( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ) فمن أي الصنفين أنت؟ قال: أنا مؤمن. قلت: صلى الله على معاذ . قال: وما له؟ قلت: كان يقول: اتقوا زلة الحكيم، وهذا منك زلة يا ابن مسعود. فقال: استغفر الله. " [26] .
( وعن أبي عوانة قال: شهدت أبا حنيفة وكتب إليه رجل في أشياء فجعل يقول: يقطع يقطع. حتى سأله عمن سرق من النخل شيئا، فقال: يقطع. فقلت للرجل: لا تكتبن هـذا. هـذا من زلة العلم. قال لي: وما ذاك؟ قال قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا قطع في ثمر ولا كثر». قال: امح ذاك، واكتب: لا يقطع لا يقطع ) [27] .
ولذا ذكر القرطبي عددا من المسائل المنقولة عن أهل العلم والدين، وبين أنها زلات لا يجوز اتباعها، ومن ذلك قوله: «ذكر النسائي في كتابه: أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي ، وهذه زلة من عالم، وقد حذرنا من زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السنة، وذكر النسائي أيضا عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيحا إلا عن إبراهيم» [28] . وعن إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: [ ص: 76 ] دخلت على المعتضد فدفع إلي كتابا نظرت فيه، وكان قد جمع له الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، مصنف هـذا الكتاب زنديق. فقال: لم تصح هـذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر المعتضد فأحرق ذلك الكتاب [29] .
لذلك يمكن أن يقال: إذا أخذنا بالخلاف في كل شيء، فكيف تعد الزلة خلافا؟
ومما يدل -أيضا- على عدم الأخذ بإطلاق قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) ، وعلى عدم اعتبار الخلاف حكما عند من قرر هـذه القاعدة من ناحية عملية، أنهم ينكرون بعض مسائل الخلاف باليد عند الاقتضاء.
ويضاف إلى ذلك: التطبيق العملي للقرآن الكريم وهو السيرة النبوية الشريفة، وما يتبع ذلك من فهم للصحابة وعمل يوائم الشريعة؛ إذ عليهم نزل القرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم يتلو عليهم آيات الله سبحانه وتعالى ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ولم يوجد أحد منهم يعتبر المذهب الخاص به هـو معيار الإنكار، بل كان النص عندهم هـو معيار الإنكار ما دام ظاهر الدلالة، والحجة عليه لائحة، والفهم فيه غير بعيد المأخذ.
ونخلص من ذلك كله إلى أن القائلين بقاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) -رحمهم الله جميعا- لم يريدوا بها -عند تقريرها- التطبيق المطلق على كل مسألة مختلف فيها كما يتبادر من لفظها، بل قد يكون مرادهم [ ص: 77 ] منها نفي الإنكار (لا إنكار) باليد، أو بالقول على سبيل التوبيخ والنعي الشديد... أما الإنكار بمعنى النصح، وبيان الحجج العلمية فهو مشروع عندهم جميعا، والنفي متوجه لمن ليس له ولاية الحسبة ، أما من له ولاية الحسبة، فيحملهم على القول الصحيح في المسألة المختلف فيها
[30] ، مع أن هـذا قابل للتفصيل، ويخضع لمرونة في التطبيق بحسب الواقع.
كما قد يكون مرادهم من كلمة (الخلاف) الواردة في عبارة (في مسائل الخلاف) -وبعضهم سماها مسـائل الاجتهاد، الذي ينتفي فيه الإنكار السـابق- الخلاف القوي، أما الخلاف الضعيف فينكر فيه على من ضعف قوله باليد ممن يحق له ذلك أو باللسان على حسب كل. وهذا ظاهر من كلامهم إلا الإمام الغزالي ، ففي قوله نوع تردد ظاهر، ومعنى هـذا أنهم قسموا عمليا المسائل الخلافية إلى قسمين:
مسـائل الخلاف: وهي ما كان أحـد القولين فيها ضعـيفا، حيث يكون فيها نص أو إجماع أو قياس جلي، وليست داخلة ضمن القاعدة.
ومسائل الاجتهاد: وهي ما كانت الأقوال فيها قوية، وهي المراد بالقاعدة، وهذا التقسيم بهذه الهيئة العملية صار تقسيما اصطلاحيا عند المتأخرين تحت الاسمين السابقين.
لقد قيد أهل العلم هـذه القاعدة ولم يطلقوها كما يوهم ظاهر اللفظ؛ وذلك لخطورة القول بها على إطلاقها. [ ص: 78 ]