الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          لا إنكار في مسائل الخلاف

          الدكتور / عبد السلام مقبل المجيدي

          الفرق بين المسائل الخلافية والمسائل الاجتهادية

          عدم التفريق [1] بين المسائل الاجتهادية -وهي التي لا ينكر على القائلين فيها بقول اجتهادي، ولكن تبقى المناظرة والمجادلة بالتي هـي أحسن بغية التباحث، والتي وضع أهل العلم علما مستقلا بذاته له متونه التي تحفظ - وبين المسائل الخلافية -وهي التي ينكر فيها على المخالف ما دامت لا تدخل ضمن المسائل الاجتهادية، وتتفاوت درجات الإنكار فيها بحسب حال كل قضية- هـو الذي أدخـل اللبس في فهم قاعدة : ( لا إنكار في مسائل الاختلاف ) ، فاعتقد بعضهم «أن مسائل الخلاف هـي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق فـي العلم» [2] ، مع أن كل من نص على هـذه القاعـدة بعبارة (لا إنكار في مسائل الخلاف) إنما يعني بها: مسائل الاجتهاد، وإن لم تكن التسمية الاصطلاحية التي تفرق بين النوعين مستقرة. ولذا عبر بعضهم عن هـذه القاعدة بالعبارة السابقة، وعبر آخرون عنها بقولهم: ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد ) [3] ، وهذا أدق في اصطلاح البحث.

          ويظهر هـذا التقسيم -مسائل خلافية ومسائل اجتهادية- في عبارات العلماء الواردة أقوالهم فيما سبق، حيث ورد في عباراتهم عند الاستثناء من قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) : «أن يكون ذلك [ ص: 126 ] المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقض، أن يكون الخلاف ضعيفا، ألا يكون معتبرا، ما ليس له حظ من النظر.»

          وكل هـذه العبارات ترجع إلى معنى واحد؛ هـو: أن الإنكار في المختلف فيه ينتفي إن كان الخلاف قويا، ويثبت إذا كان الخلاف ضعيفا (غير معتبر، بعيد المأخذ) ، ولكنها في الحقيقة تجعل الخلاف القوي ضابطا للمسألة الاجتهادية، فكل ما فيه خلاف قوي فهو مسألة اجتهادية فلا إنكار فيها؛ كالجهر بالبسملة، والإسرار بها في الصلاة... لكن لا بد من تحرير القوة والضعف؛ ليتحدد الأمر أكثر.

          تعريف المسائل الاجتهادية [4] :

          المسائل الاجتهادية التي يكون الخلاف فيها قويا معتبرا له حظ من النظر هـي التي يظهر فيها وصف من الأوصاف التالية:

          أ - ما تجاذبها أصلان شرعيان صحيحان، فترددت بين طرفين، وضح في كل منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر، فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات، ومنها: زكاة الحلي، ترددت بين النقدين والعروض، وقبول رواية مجهول الحال وشهادته تردد بين العدل والفاسق [5] .

          ومن ذلك مسألة: من جاء يتابع الإمام وهو في السجود الأخير من آخر ركعة: هـل يكبر ويقرأ أذكار ما بقي من الصـلاة أم يتابعه بالحركات دون الأذكار ثم يستأنف تكبير الإحرام بعد السلام؟

          ومثل [ ص: 127 ] جلسة الاستراحة عند من قال بها: هـل لها ذكر، أم يسكت عندها؟ بل أهي للاستراحة، أم للحاجة، أم للتعبد؟ فهذه من «محال الاجتهاد المعتبر» [6] ، ومثل هـذه تماما قصة صلاة العصر في بني قريظة ، مع ملاحظة أمر جليل هـو وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم للإقرار أو الإنكار، أما الآن فليس إلا لزوم آداب الخلاف، والاجتهاد في تحري الهدى؛ سواء بالنفس للمتأهل لذلك، أو بالنظر في الثقة الأمين وأخذ أقواله بدليل أو بتقليد، بحسب كل.

          ب - المسائل التي ليس «فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به الاجتهاد؛ لتعارض الأدلة، أو لخفاء الأدلة فيها» [7] كخروج النجاسات من غير السبيلين، وأخذ رجل حقه من مغتصبه دون الرجوع إلى قضاء في حال ظلم القضاء.

          ومما يدخل ضمن هـذا النوع: كيفية التعامل مع النوازل الطارئة في الواقع [8] : حيث تنتابها الاجتهادات الدعوية المختلفة مما يواجه الدعاة في مختلف ميادينهم، فالاجتهاد في معالجة تلك الواقعة داخل ضمن النطاق الاجتهادي. ويوضح ذلك ما حدث لهارون عليه السلام في تعامله مع نازلة الشرك التي حدثت من بعض قومه بعد أن ذهب عنهم موسى ، وفيها عبر كثيرة ليس هـذا ميدان بسطها، إنما الإشارة إلى أن المسألة في فحواها كبيرة؛ إذ الكلام عن شرك وتوحيد. ولكن الاجتهاد هـو في أسلوب [ ص: 128 ] التعامل. ومثل ذلك اختلاف آراء الصحابة في كيفية التعامل مع نازلة المرتدين ومانعي الزكاة. وكما يشدد هـنا على تذكر الأخوة الإيمانية الواجبة، ومصادرة الظنون التي قد تنشأ عن الاجتهادات المختلفة، كذلك ينبغي أن نصطحب أنه ينبغي بيان الحجج العلمية في اتخاذ أسلوب لمعالجة الموقف وإشاعته بين الناس، وأن ذلك لا يعد تشهيرا، وإلا لما وصلنا شيء مما نستدل به الآن، أو نستنبط منه الأحكام المختلفة.

          ج - ما تجاذبه نصان أو أكثر، وكل واحد مقبول سندا، ظاهر دلالة: كتكبيرات العيد والجنائز، والجهر والإسرار بالبسملة، وكاستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره، والتوضؤ من مس الذكر والنساء، والقراءة بالبسـملة سـرا أو جهرا وترك ذلك، وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه [9] .

          ومن النماذج التي يمكن إيرادها لتقريب هـذه المسألة نموذج لمسألة اجتهادية اختلف فيها ثلاثة من أئمة العراق، ومع كل إمام دليله من السنة: فقد روى عبد الوارث بن سـعيد ، قال : قدمـت مكة فوجدت بها أبا حنيفة ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، فسألت أبا حنيفة عن رجل باع بيعا، وشرط شرطا، فقال: البيع باطل، والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته، فقال: البيع جائز، والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة، فسألته، فقال: البيع جائز، والشرط جائز. فقلت: يا سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا في مسألة واحدة؟ فأتيت أبا حنيفة فأخبرته، فقال: [ ص: 129 ] ما أدري ما قالا. حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط، البيع باطل، والشرط باطل... ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته، فقال: ما أدري ما قالا، حدثني هـشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة ، قالت: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة فأعتقها. البيع جائز، والشرط باطل... ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته، فقال: ما أدري ما قالا، حدثني مسعر بن كدام ، عن محارب بن دثار ، عن جابر ، قال: بعت النبي صلى الله عليه وسلم ناقة، وشرط لي حملانها إلى المدينة. البيع جائز، والشرط جائز [10] .

          فهذه مسألة اجتهادية، تجاذبتها الأدلة المختلفة، فاختلفت فيها الأنظار.

          د - ما ورد فيه نص، ولكنه ليس محل اتفاق في دلالته، مع ظهور قوة استدلال الطرفين، وذلك كرفع اليدين في تكبيرات العيدين والجنائز، وإعادة اليدين إلى موضعهما بعد الركوع، وكيفية الهوي إلى السجود، ومن أمثلتها: الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، وفي الخلاف في تفضيل عثمان على علي ، والخلاف في تكفير تارك الصلاة، والأركان الأربعة غير الشهادتين تكاسلا، ووجوب المضمضة والاستنشاق أو استحبابهما، ووجوب قضاء الفوائت بدون عذر أو عدم جواز قضائهما أصلا، والخلاف في اختلاف المطالع ودوره في إثبات الشهر، وطلاق الثلاث بلفظ واحد، وهل يقع ثلاثا أو واحدة؟

          ومن النماذج التي يمكن إيرادها هـنا: اختلاف خمسة من الصحابة في مسألة اجتهادية، فقد " روى الشعبي قال: دعاني الحجاج فسألني عن الفريضة [ ص: 130 ] المخمسة وهي: أم، وجد، وأخت. فقال لي: ما قال فيها الصديق رحمه الله؟ قلت: أعطى الأم الثلث، والجد ما بقي؛ لأنه كان يراه أبا. قال: فما قال فيها أمير المؤمنين؛ يعني: عثمان بن عفان رضي الله عنه ؟ قلت: جعل المال بينهم أثلاثا. قال: فما قال فيها ابن مسعود ؟ قال: «كذا». قلت: أعطى الأخت النصف، والأم ثلث ما بقي، والجد الثلثين؛ لأنه كان لا يفضل أما على جد. قال: فما قال فيها زيد بن ثابت ؟ قلت: أعطى الأم الثلث، وجعل ما بقي بين الأخت والجد، للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنه كان يجعل الجد كأحد الإخوة إلى الثلاثة. قال: فزم بأنفه. ثم قال: بم قال فيها أبو تراب ؟ قال: قلت: أعطى الأم الثلث، والأخت النصف، والجد السدس " [11] .

          فهذه مسألة واحدة اختلف فيها سادات أهل العلم من الصحابة بعد الاجتهاد في دلالات النصوص الواردة فيها.

          أما المسائل الخلافية: فهي أعم من ذلك؛ إذ تشمل كل ما وقع فيه خلاف، وإن كان ضعيفا أو شاذا أو مما اعتبر من زلات العلماء، وذلك كالخلاف في نكاح المتعة، أو في عدة المتوفى عنها، أو في ربا الفضل، أو في ربا البنوك... فكل مسائل الاجتهاد من مسائل الخلاف وليس العكس [12] ، بحسب اصطلاح هـذا البحث. [ ص: 131 ]

          الفرق في الحكم بين المسائل الاجتهادية والمسائل الخلافية:

          من الفروق الأساس في الحكم بين المسائل الاجتهادية والمسائل الخلافية أن المسائل الاجتهادية لا إنكار فيها باليد، ولا باللسان؛ بإقذاع وتثريب، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه، بخلاف المسائل الخلافية الأخرى [13] .

          ولا بد من التأكيد هـنا أن كلام الأئمة حول قاعدة ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) فيه ما يشير إلى تقسيم المختلف فيه إلى قسمين من حيث التعريف ومن حيث الحكم:

          مسائل خلافية : يكون فيها الإنكار قائما بأنواعه.

          ومسائل اجتهادية : لا إنكار فيها إلا تذكيرا علميا ومباحثة.

          وقد يلمح وجود هـذا التقسيم بصورة عملية في ثنايا [ ص: 132 ] كلامهم، وإن لم يكن التقسيم الاصطلاحي مستقرا، فالسيوطي يستثني من هـذه القاعدة، والاستثناء يقتضي وجود اثنين:

          مستثنى: وهو المسائل الخلافية فالإنكار فيها قائم.

          ومستثنى منه: وهو المسائل الاجتهادية، فالإنكار فيها هـو المنفي على تفصيل في ذلك.

          والماوردي يجعل الإنكار قائما فيما ضعف فيه الخلاف، وهذه هـي المسائل الخلافية، وينفي الإنكار فيما عدا ذلك من المسائل الخلافية وهي المسائل الاجتهادية [14] ، ومثله الفراء فتقسيم المسائل الخلافية إلى نوعين؛ أحدهما: يكون فيه الإنكار، والآخر: لا إنكار فيه، مما يجعل القاعدة أكثر انضباطا، وهذا واضح في كلام العلماء من ناحية عملية، وإن لم يوجد من حيث الاصطلاح.

          ومن أجل هـذا الحكم للمسائل الخلافية فإن المعمول به عند أئمة الفقهاء قيام الإنكار باليد حال الاقتضاء لبعض المختلف فيه، فعند «فقهاء الحديث مثلا أن من شرب النبيذ المختلف فيه حد، وهذا فوق الإنكار باللسان، بل عند فقهاء أهل المدينة يفسق، ولا تقبل شهادته، وهذا يرد قول من قال لا إنكار في المسائل المختلف فيها، وهذا خلاف إجماع الأئمة، وقد نص الإمام أحمد على أن من تزوج ابنته من الزنا يقتل. والشافعي وأحمد ومالك لا يرون، خلاف أبي حنيفة فيمن تزوج أمه وابنته أنه يدرأ عنه الحد بشبهة دارئة للحد، بل عند الإمام أحمد يقتل؛ وعند الشافعي ومالك يحد حد الزنا في هـذا» [15] .

          ويظهر من هـذا، ومما سبق في كلام الأئمة، أن الحمل على القول [ ص: 133 ] الصحيح في المسألة المختلف فيها واجب على من له ولاية الحسبة وغيره والإنكار الشديد على من فعل منكرا، مطلوب شرعا بدرجات الطلب الشرعية، إلا أن حق الإلزام إنما يكون لمن له ولاية الحسبة، وفي المقابل فللرعية الإنكار على الحاكم اختياره غير الصحيح في مسألة خلافية ضعف الخلاف فيها، كما فعل علي في الإنكار على عمر وعثمان ، وكما فعل ابن عباس في الإنكار على علي ، مما سبق التمثيل له، أما المسألة الاجتهادية فليس للحاكم أن يحمل فيها غيره على قول يظنه راجحا، فضلا عن غيره.

          وعلى هـذا فإن مفهوم الإنكار المنفي في المسائل الاجتهادية هـو: الإنكار باليد، أو التشنيع على المخالف، أو القدح في دينه وعدالته، كرميه بالبدعة أو الفسق، وهجره من أجلها، فإن هـذا كله يطبق على من أتى منكرا في مسـألة غير اجتهادية؛ سـواء كان ذلك في مسـألة إجمـاعية أم خلافية، وكل شيء بحسبه، ولا يتنافى في هـذا مع بيان الراجح من الرأيين [16] ، وهذا كان فعل الصحابـة رضي الله عنهم : ( فعن عبد الله بن عمر ، أن عمر بن الخطاب بينا هـو يخطب الناس يوم الجمعة دخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه عمر: أية ساعة هـذه؟ فقال: إني شغلت اليوم، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء، فلم أزد على أن توضأت. قال عمر: والوضوء أيضا، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل؟ ) [17] .

          ويلحظ أن الإنكار هـنا على رءوس الأشهاد فهو يتعدى مجرد بيان الحجة العلمية، مع أن الصحابة رضي الله عنهم أنفسهم مختلفون في وجوب غسل [ ص: 134 ] الجمعة، فحكم غسل الجمعة مسألة اجتهادية، وكذلك التأخر عنها حتى يخطب الإمام ليس بحرام، ولكن عمر أنكر على عثمان في كل منهما، ولذا فحـتى المسـائل الاجتهادية تختلف مراتب بيان الحجج العلمية فيها؛ فقد يصل فيها بيان الحجة العلمية إلى نوع من التشهير، كما سبق وكما في إنكار عائشة رضي الله تعالى عنها في مسألة اجتهادية هـي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه تعالى.

          ( فعن مسروق ، قال: كنت متكئا عند عائشة ، فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هـن؟ قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنت متكئا، فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني. ألم يقل الله عز وجل

          ( ولقد رآه بالأفق المبين ) (التكوير:23) ،

          ( ولقد رآه نزلة أخرى ) (النجم:13) ؟

          فقالت: أنا أول هـذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنما هـو جبريل ، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هـاتين المرتين؛ رأيته منهبطا من السـماء سـادا عظم خلقـه ما بين السماء إلى الأرض». فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول:

          ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) (الأنعام:103)

          أو لم تسمع أن الله يقول: ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) (الشورى:51)

          قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب )
          [ ص: 135 ] ( الله، فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول:

          ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) (المائدة:67) .

          قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية،

          والله يقول: ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) (النمل:65) )
          [18] .

          ويظهر من الحديث أن إنكار عائشة رضي الله عنها إنما كان في مسألة اجتهادية؛ وهي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، وقد جعلته مساويا لإنكارها الزعم بكتمان النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الرسالة.

          وقد تخفت حدة الإنكار حتى تصل إلى مجرد قيام كل من المجتهدين بعمل ما يظنه صوابا، وبيان وجهته في ذلك، كما في حادثة بني قريظة ، ( فعن ابن عمر ، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب : «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة » فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم ) [19] .

          ولكن الذي نشدد عليه أن كلا من المختلفين أو المتبعين لقول اجتهادي يجب ألا يضحي بالأخوة الإسلامية القطعية الثبوت والدلالة وحقوقها، في مقابل مسألة خلافية الخلاف فيها محتمل، أو اجتهادية قد سبق الخلاف في مثلها أو نحوها بين أهل العصور الفاضلة فما أذهبت ودا، وما أوقدت بغضاء، ولا قدحت في دين، ما دام ذلك في الإطار العام للأصول والثوابت الإسلامية القطعية. [ ص: 136 ] إن المسائل الاجتهادية -وليس كل مسألة خلافية- فيها سعة ورحمة، وقد قال فيها " عمر بن عبد العزيز : ما أحـب أن أصحـاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة... "

          وفيها قال القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر فيه: إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة.

          وفيها قال يحيى بن سعيد : ما برح أولو الفتوى يفتون؛ فيحل هـذا ويحرم هـذا، فلا يرى المحل أن المحرم هـلك لتحريمه، ولا يرى المحرم أن المحل هـلك لتحليله.

          وفيها قال سفيان الثوري : «إذا رأيت الرجل يعمل بعمل قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه» [20] .

          ولذا عقب ابن عبد البر عند ذكره لبعض هـذه الآثار مسندة: «هذا فيما كان طريقه الاجتهاد» [21] . وهي التي يقـول فيها أهل العـلم: « ولا إنكار في مسائل الاجتهاد » [22] .

          سبب الاختيار للمصطلح

          الاصطلاح على المسائل التي لا إنكار فيها «بالمسائل الاجتهادية» أوجبه ضرورة التوقف عند ظاهر النص، ما لم تكن هـناك ضرورة لتأويله فتسمى المسألة خلافية حال بروز الخلاف فيها، ولو لم يكن الخلاف فيها سائغا، فقد يكون ضعيفا، أما المسائل الاجتهادية فسبب التسمية هـو تسويغ الاجتهاد في [ ص: 137 ] فهم النص أو النصوص الواردة فيها لعدم غلبة ترجيح أحدها غلبة ظاهرة، فيجتهد العقل وفق الضوابط المعلومة في ترجيح قول من الأقوال الواردة فيها. بخلاف الخلافية غير الاجتهادية فإن النص فيها ظاهر فيتوقف عنده، وإن خالف بعضهم فيها لسبب أو لآخر، وعلى هـذا: فكل مسألة اجتهادية هـي مسألة خلافية، ولكن ليس كل مسألة خلافية هـي مسألة اجتهادية[23] .

          ولم يشترط أهل العلم للتفريق بين المسائل الاجتهادية والمسائل الخلافية أن تكون المعرفة بكون المنكر منكرا معرفة قطعية، بل قد يكون في اعتبار كونه منكرا خلاف، ولكنه خلاف ضعيف، ورد المحققون على من أبى إلا أن تكون المعرفة بكون المنكر منكرا قطعية، ومن ذلك قول الشوكاني : «وأما قول الجلال [24] هـاهنا: إن المنكر هـو ما كان دليله قطعيا؛ بحيث لا خلاف فيه فمن ساقط الكلام وزائفه؛ فإن إنكار المنكر لو كان مقيدا بهذا القيد لبطل هـذا الباب وانسد بالمرة، وفعل من شاء ما شاء؛ إذ لا محرم من محرمات الشريعة في الغالب إلا وفيه قول لقائل، أو شبهة من الشبه، وسيأتي في هـذا الكتاب [25] في السير أنه لا إنكار في مختلف فيه... وهو أيضا باطل من القول، وإن كان أقل مفسدة من هـذا الكلام» [26] . [ ص: 138 ] على أنه ينبغي التنبيه إلى أن إيجاد ضابط مانع جامع يحجز بين الأنواع المختلفة لمسائل الاجتهاد، ودرجات بيان الحجة العلمية، ومتى ترتفع حدة الإنكار والتثريب فيها أمر عسير الضبط [27] ، لكن المشترك فيها عدم التغيير باليد، وعدم التجريح والرمي بالبدعة أو الفسق أو النفاق أو نحو ذلك، ومثل هـذا يحترز منه جدا؛ لشيوع تساهل بعضهم فيه، خاصة ( وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «...لعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله. ) [28] ، كما ( قال: «لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ) [29] .

          أسباب وضع قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد )

          يبقى أن يشار إلى أن الأئمة الذين وضعوا هـذه القاعدة لم يقصدوا بها أن تكون على إطلاقها لتصادر النصوص الصحيحة الصريحة بمجرد وجود خلاف قطعا، بل حملهم على وضعها -فيما يظهر- ما يلي:

          1 - الحجز بين المتنازعين من مقلدة المذاهب، وفي الواقع المعاصر يبرز مكانهم مقلدو الحركات والأحزاب والجماعات الإسلامية، أو أتباع الاتجاهات الإسلامية المعاصرة.

          2 - تخفيف وطأة الخلاف بين العلماء فيما فيه سعة من مسائل الاجتهاد التي مضى تقريرها آنفا؛ خوفا من أن يختلفوا ظاهرا فيخالف الله بين قلوبهم باطنا، «ولا شك أن الخلاف الفقهي في ذاته لا ينتهض [ ص: 139 ] لإحداث الفرقة، وإنما تتسبب الفرقة عن ضيق الصدور، واستحكام الهوى، والتعصب للرأي» [30] .

          3 - الحث على الاجتهاد في النوازل والمسائل الخلافية على أوسع نطاق بين المتأهلين؛ للوصول إلى هـدى الله في الواقعة المعينة، وهذا هـو الذي جعل أبا حنيفة يقول في المسائل الاجتهادية: «قولنا هـذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا، فهو أولى بالصواب منا» [31] . ومما يدل على أن أبا حنيفة أراد بقوله هـنا «المسائل الاجتهادية» لا غيرها، الجمع بين قوله هـذا وبين فعله العملي، حيث روى الخطيب البغدادي عنه في الموضع ذاته أنه خطأ ابن أبي ليلى في إقامته حد القذف على مجنونة، وخطأ الحسن في مسألة أفتى فيها ونقلها بعض من كان عند أبي حنيفة؛ لورود النص الحاجز لأن تعد المسألة اجتهادية، وتقدم عدم رجوعه في مسألة أنكرها عليه الأوزاعي ؛ لورود النص، وجمع بين الأمرين الإمام أحمد في قوله: «رأي الأوزاعي ، ورأي مالك ، ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار» [32] .

          4 - التذكير بوجود اختلاف التنوع، وفيه يتم الجمع بين الأقوال التي تعتمد على جانب واحـد عند النظر إلى أدلة المسألة الواحدة، وهو ما يسمى اختلاف الوهم ، وقريب منه اختلاف الضبط ، واختلاف السهو [ ص: 140 ] والنسيان [33] ، ويدرجه المعاصرون في اختلاف التنوع ، ومن أمثلته ما ( جاء عن سعيد بن جبير ، قال: قلت لعبد الله بن عباس : يا أبا العباس ، عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب. فقال: إني لأعلم الناس بذلك. إنها إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، فمن هـناك اختلفوا. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظـته عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهـل، وأدرك ذلك منه أقوام -وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا- فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل، فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علا على شرف البيداء أهل. وأدرك ذلك منه أقوام، فقالوا: إنما أهل حين علا على شرف البيداء. وايم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء ) [34] . وهذا النوع كثير في الشريعة الإسلامية.

          لعل هـذه بعض أسباب وضع هـذه القاعدة، ولم يقصد الفقهاء من وضعها أن تعود القاعدة الفقهية على أصلها وهو النص، وما تبعه بالإلغاء والإبطال. [ ص: 141 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية