الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          خاتمة

          لقد حاولت في ما سبق أن أعرض لجانب من الجوانب المهمة في الفقه الإسلامي، يكشف عن مدى ما يتوفر عليه من السعة والرحابة في اسـتيعاب الخـلاف من خلال هـذه القاعدة الفقهية الجليلة: ( لا إنكار في مسـائل الخلاف ) ، وأنها يجب أن توضـع في موضعها اللائق بها. كما حاولت أن أبين أن هـذا الاستيعاب إنما يتجسد في الاتساق التام بين هـذه الثلاثية الفريدة من: إشاعة التقويم بأنواعه المختلفة، والتعامل الشرعي معه وفق أقسام مسائل الخلاف مع بقاء الأخوة الإسلامية، والمحافظة على صلاح ذات البين.

          فالتقويم والنقد يعتبر في المجتمع الإسلامي معلما شرعيا، وركيزة أساسية، وقيمة خلقية؛ سواء تم من خلال النصح مع الستر والإسرار في الحالات الفردية أو الأفكار الشخصية، أو من خلال الإنكار مع الإظهار في حالة كون الخلل أفكارا علنية أو أفعالا مقتدى بها، وعدم استعلاء أي كان على النقد أو ترفعه، أو تكوين حساسيات مفرطة إزاء ذلك، فضلا عن مصادرة النقد أو التهجم على أصحابه أو الحط منهم بشتى الألقاب، مما يفعله بعض المتأخرين من محاولة محاربتهم في كل واد وناد.

          والتقويم والنقد هـي القيمة التي يتباهى بها العالم اليوم، مع أنها كانت من أهم القيم التي اتضحت خلال مسيرة أمة الإسلام الحافل بجليل القيم والأعمال، حتى اعترانا ما اعترانا من نبذ كثير من معالم الدين وراءنا ظهريا، ثم كان الانبهار بالوافد، والانصهار فيه. [ ص: 174 ] كما يتجسد هـذا الاستيعاب في ظاهرة التطبيع التربوي على تقبل الخلاف نفسيا، والقبول بظاهرة تعدد الآراء، والاستيعاب النفسي لها، مع مناقشتها على درجات من التقويم والتسديد بحسب اقترابها من النص والمقاصد العامة والخاصة للتشريع، فكلما بعدت ازدادت حدة الإنكار في ظل حسن الظن، والأخوة الإسلامية، وهذا ما أرسته قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) ، مع تذكر أن الإنـكار قد يعلو إذا كان الخلاف بعيدا أو ضعيفا والنص ظاهرا في الدلالة، محتف بقرائن تدل على المراد.

          ولا يعني ذلك انثلام عرى الأخوة بين المتناصحين، ولا انفراط عقد المحبة بين طرفي الإنكار، بل يزداد الصف المسلم صلابة وقوة وتماسكا، وتبقى حقوق كل مسلم على أخيه المسلم وواجباته من المسائل القطعية التي لا تصادرها المسائل الظنية المختلف فيها، ما دام ذلك باقيا في ظل الأصول المعلومة.

          وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هـذه المعالم الثلاث، وأكد عليها مجموعة في عدة أحاديث، منها ( ما رواه عنه أبو هـريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكـم ثلاثا: فيرضى لكـم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا. ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ) الحديث [1] .

          فقولـه: ( أن تعتصموا بحبل الله جميعا ) يشير إلى أهمية عروة الأخوة الإسلامية، وقرنها بعبادة الله وحده لا شريك له. [ ص: 175 ] وقولـه ( بحبل الله ولا تفرقوا ) ، يشير إلى ضرورة استيعاب الخلاف في النفسية المؤمنة، فلا يؤدي إلى التفرق بما أنه مسألة طبيعية، وغريزة فطرية، على أن يكون استيعابه من جهة الحفاظ على آدابه وأخلاقه، مع التقويم المستمر الذي يعبر عنه النصح في الحديث في حال حدوث الخلاف على أمر ما بيانا لحبل الله الذي يعتصم به إن كان الخلاف ضعيفا، واستيعابا لعدم إثارته للتفرق إن كان الخلاف قويا، وهذا ( كقول النبي صلى الله عليه وسلم : «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن الدعوة تحيط من ورائهم ) [2] . فجمـع بين النصح ولزوم الجماعة، والمراد جماعـة المسلميـن العامة، ولا ينبغي تنـزيلها على جماعة بعينها من المسلمين.

          ومنها ( ما رواه أنـس رضي الله عنه أن الـنبي صلى الله عليه وسلم قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما». فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما؛ أفرأيت إذا كان ظالما، كيف أنصره؟ قال: «تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره ) [3] . وفي لفظ قال: ( تأخذ فوق يديه ) [4] . وفي رواية: ( فلينهه؛ فإنه له نصرة ) [5] .

          ( فقولـه صلى الله عليه وسلم : «انصر أخاك ) ، ثبت حقيقة الأخوة الإسلامية قبل كل شيء، ثم على خط مواز لها ومبين لبعض حقائقها أمر بنصرة الأخ المسلم [ ص: 176 ] أيا كان؛ تلميذا أو شيخا أو حزبا أو جماعة أو أميرا أو مأمورا، وجعل من أهم حقائق نصرته أن يحجزه عن خطئه، وينهاه عن ظلمه وهذا هـو التقويم للعوج، والنصح والإنكار مع بقاء حقوق الأخوة بل جعل هـذا من حقوق الأخوة. وسمى الخطأ الذي يقع فيه أخوه المسلم ظلما؛ لأن الظلم هـو: وضع الشيء في غير موضعه؛ سواء كان قولا أو رأيا أو فعلا.

          وقد تجسدت هـذه المعاني التي تنطوي عليها هـذه القاعدة في كثير من النماذج التطبيقية، التي تقدم بجلاء ووضوح صورة المجتمع الإسلامي الراشـد، وهو يجمع بين هـذه القيم الرفيعة، من مثل ما حـدث بين عمار بن ياسر وأبي موسـى الأشعري من جهة، وبين عمر بن الخطاب وابن مسعود من جهة أخرى رضي الله عنهم جمـيعا، حيث أنكر عمار بن ياسر على عمر بن الخطاب فتواه بعـدم تيـمم الجنب، وأنـكر أبو موسى عـلى ابن مسعود الفتوى ذاتها، ودار بين الجميع حوار قمة في المثالية والواقعية:

          ( عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري ، فقال له أبو موسى : لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا أما كان يتيمم ويصلي؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) (المـائدة:6) ، فقـال عبد اللـه: لو رخص لهم في هـذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا الصعيد. قلت: وإنما كرهتم هـذا لذا؟ قال: نعم. فقال أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ) [ ص: 177 ] ( إنما كان يكفيك أن تصنع هـكذا». فضرب بكفه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه. فقال عبد الله : أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟ ) ( وفي رواية: قال عمار : يا أمير المؤمنين، إن شئـت، لما جعل الله علي من حقك، لا أحدث به أحدا... ) ( وفي رواية أخرى، فقال عمر : اتق الله يا عمار، قال: إن شئت لم أحدث به ) [6] .

          وعلى الرغم من جلالة هـذين الصحابيين؛ عمر وابن مسعود ، إلا أنه لم يؤخذ بقولهما في عدم صـلاة المسلم عند فقد الماء، وترك قولهما رضي الله عنهما ، كما قال ابن عبد البر : «فلما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد ربه من معنى آية الوضوء؛ بأن الجنب داخل فيمن قصد بالتيمم عند عدم الماء بقوله: ( فلم تجدوا ماء فتيمموا ) (المائدة:6) ، تعلق العلماء بهذا المعنى ولم يعرجوا على قول عمر وابن مسعود، وليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يصح» [7] .

          فلم يوجد تقديس لشخص بعينه، ولا احتج بعضهم على بعض بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف، بل تم الإنكار، ولكن وجود الإنكار لم يقض على الخلاف، بيد أن أخوة الإسلام وحقوقها وواجباتها، ومعرفة كل ذي فضل فضله بقيت لم تمس، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي : «ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يفترقوا، [ ص: 178 ] ولم يصيروا شيعا؛ لأنهم لم يفارقوا الدين، وإنما اختلفوا فما أذن لهم من اجتهاد الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصا، واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين؛ لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به، وكانوا مع هـذا أهل مودة وتناصح، أخوة الإسلام فيما بينهم قائمة،

          ودليل ذلك قوله تعالى: ( واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ) (آل عمران:103)

          فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى» [8] . «وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا فى الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله:

          ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) (النساء:59) ،

          وكانوا يتناظرون فى المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم فى المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين»

          [9] .

          وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

          ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

          والحمد لله رب العالمين. [ ص: 179 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية