الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          بين حجية الإجماع، ورحمة الاختلاف

          قد يستدل على عدم الإنكار على المختلف فيه بالقول الشهير: « إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة » [1] ، وهي قاعدة عظيمة تناقلها علماء الإسلام. كما قد يستدل على ذلك " بقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: «ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هـذا، ورجل بقول هـذا كان في الأمر سعة». " وكذلك قال غيره من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه [2] .

          وتنطوي هـذه القاعدة على جوانب من الإيجاب والسلب، وفقا لما نحن بصدده هـنا، من ذلك:

          1 - هـذه القاعدة كقاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) سواء بسواء، تشتمل على معالم جليلة في الحياة الفقهية الإسلامية، غير أنها ليست على إطلاقها، وما قيل في تلك يقال في هـذه.

          2 - المراد من كون الاختلاف رحمة، ومن قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله -إن صح عنه- هـو السعة في جواز أصل الاجتهاد، فكما حل لهم الاجتهاد حتى اختلفوا حل لمن بعدهم، فالرحمة في جواز أصل [ ص: 154 ] الاجتهاد وفيما أدى إليه اجتهادهم في المسائل الاجتهادية، لا فيما أدى إليه اجتهادهم في كل مسألة ورد فيها خلاف؛ إذ قد يظهر النص لقوم ويغيب عن آخرين. ولا ينبغي لأحد عنده قولان في مسـألة خـلافية -غير اجتهادية- أن يأخذ إلا بما يعضده الحكم الحق عند التنازع وهو النص؛ قرآنيا كان أو نبويا، قال ابن حزم رحمه الله تعالى: «وإذا صح الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم فلا يجوز أن يحرم على من بعدهم ما حل لهم من النظر، وأن يمنعوا من الاجتهاد الذي أداهم إلى الاختلاف في تلك المسألة إذا أدى إنسانا بعدهم دليل إلى ما أدى إليه دليل بعض الصحابة» [3] . وهذا صنيع ابن تيمية ، وهو الذي أكد على الرحمة في الاختلاف، حيث كان يتوسع في المسائل الاجتهادية، وينكر في غيرها من الخلافيات على من خالف الدليل.

          3 - بل من العلماء من أنكر أن يكون (الاختلاف رحمة) مطلقا، ومنهم بعض من نسب إليه القول المذكور؛ فقد رد الإمام مالك وغيره على ذلك فيما ذكره الشاطبي في قولـه: «وأما قول من قال: إن اختلافهم رحمة وسعة. فقد روى ابن وهب ، عن مالك ، أنه قال: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد. قيل له: فمن يقول: إن كل مجتهد مصيب. فقال: هـذا لا يكون؛ قولان مختلفان صوابين؟» [4] .

          ولو سلم صحة هـذا القول فيحتمل أن يكون من جهة فتح باب الاجتهاد؛ أي أن المجتهد [ ص: 155 ] مصيب بسلوكه طريق الاجتهاد، فهو حث على الاجـتهاد، وعـدم الاتكال على الغير، وأن مسائل الخلاف قد جعل الله سبحانه وتعالى فيها سعة؛ بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك. قال القاضي إسماعيل : «إنما التوسعة في اختلاف أصحـاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسـعة في اجتهاد الرأي، فأما أن يكون توسـعة أن يقـول الإنسـان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا.» ، قال ابن عبد البر : «كلام إسماعيل هـذا حسن جدا» [5] .

          4 - ومن محامل الكلام السابق أن المراد به مسائل الاجتهاد في العبادات المحضة أو غير المحضة، مما لم يظهر الدليل فيها بوضوح، أو تجاذبته الأدلة ومقاصد الشريعة الشريفة، وهذا ما يدل عليه عمل من قعد القاعدتين الواردتين في هـذا المبحث، وفي ذلك يقول أبو مزاحم الخاقاني جامعا بين الأمرين:

          وأخذي باختلافهم مبـاح لتوسيع الإله على الأنام     ولست مخالفا إن صح لي عن
          رسول الله قول بالكلام

          الاجتهاد من مقاصد الشريعة

          ويؤكد ما سبق حقيقة هـامة من حقائق الشريعة؛ هـي أن الاجتهاد من مقاصد الشريعة، وفي مسائله السعة، وأما الاختلاف الذي يؤدي للتنازع فلـيس مقصـودا للشريعة، ولا هـو من طبيعتها، فالشـريعة [ ص: 156 ] «لا اختلاف فيها، وإنما جاءت حاكمة بين المختلفين فيها، وفي غيرها من متعلقات الدين، فكان ذلك عندهم عاما في الأصول والفروع حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة، فلما جاءتهم مواضـع الاشـتباه وكلوا ما لم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله تعالى:

          ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) (آل عمران:7) ،

          و[لأن] الفطر والأنظار تختلف فوقع الاختلاف من هـنا، لا من جهة أنه من مقصود الشـارع، فلـو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هـذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها، وهم القدوة في فهم الشريعة، والجري على مقاصـدها لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الـدالة على ذم الاختلاف» [6] .

          وقد أنكر الصحابة بعضهم على بعض في المسائل الاجتهادية من المسائل الخلافية، لكن الإنكار لم يتعد أن يكون باللسان، وقد يتسع بهذا الأسلوب إلى نوع من التشهير غير القادح في صحة الدين، ولا التارك لحسن الظن بالمسلميـن، وهو ما صـارت أمم الأرض تفاخر به إن وجد عندها، وتدرجه تحت إطار النقد، وتعتبره قيمة إنسانية عليا، وحقا من حقوق الإنسان في عـلاقته مع الآخر، دون أن يشـق ذلك على الآخر أو يعتبره تهجما، أو قدحا في العرض أو الدين، وتقدم بعض ما يدل على ذلك.

          ومما يدل عليه أيضا: ما جاء [ ص: 157 ] ( عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات، فقـيل ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع، ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان ) [7] . " لكن عبد الله صلى أربعا، قال فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعا؟ قال: الخلاف شر " [8] .

          وتتجلى في موقف ابن مسعود رضي الله عنه هـنا عدة آداب شرعية في كيفية التعامل مع المسائل الاجتهادية:

          - إنكاره على عثمان رضي الله عنه في مسألة اجتهادية إنكارا تشهيريا على الرغم من أن عثمان هـو أمير المؤمنين فلم يقل: حكم الحاكم ملزم، ولا المسألة اجتهادية، ولا لا ينبغي الإنكار خوفا من الوقوع في التشهير. ولم يقل: النصح يجب أن يكون سرا.

          - إنكاره عليه الإتمام مع أن المسألة اجتهادية عند الصحابة أنفسهم؛ فإن عائشة وعبد الله بن مسعود ذاته وعثمان رضي الله عنهم يرون أن القصر رخصة، وأن الإتمام مشروع، لكن ابن مسعود أنكر ترك السنة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في منى . فهذا إنكار لترك سنة لا لفعل محظور.

          - لم يتعد الإنـكار في هـذه المسألة الاجتهادية هـذا القدر، بل " عاد [ ص: 158 ] ابن مسعود عمليا فتابع عثمان ، وقال: الخلاف شر. " وهذا يوضح بجلاء أن الصحابة كانوا ينـكرون على بعضـهم، ويخطئون الاجتهاد، لم يقولوا: لا إنكار في مختلف فيه. ولا قالوا: الخلاف رحمة واسعة. بل " ابن مسعود يقول: الخلاف شر. " ، ولم يقولوا: كل مجتهد مصيب. بل خطأ بعضهم بعضا في عدد من المسائل الفقهية (الفرعية) ، ولم يجعلوا أحدا فوق النقد، ولكنهم لم يفسدوا الأخوة العامة، وواجباتها القطعية بمثل هـذه المسألة، بل بعد أن يبين أحدهم حجته، ويظهر خطأ الآخر يبقي يقره على اجتهاده، بغض النظر عن مخالفته له في نتيجة هـذا الاجتهاد «وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم؛ كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك» [9] .

          بيد أنه من المفارقات المؤلمة في الواقع الإسلامي المعاصر أن نشاهد صورتين طاغيتين:

          الأولى: قـد ترى من يقوم بالنقد والتذكير الشرعي في مسألة فيها نص شرعي، فإذا تم التذكير به ثار المذكر على المذكر، وأشهر في وجهه سلاحا قاطعا لكل تذكير ونصح وحوار، هـو سـلاح (المسألة خلافية) و (لا إنكار في مسائل الخلاف) . وقد تصادر بمثل ذلك النصوص المعصومة ابتداء، ويصادر العمل بمقتضاها تبعا كما قال [ ص: 159 ] الشوكاني رحمه الله تعالى: «وربما يقوم في وجهه [10] من يريد تقويم الباطل فيقول له: ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد ) » [11] ، فتصـادر النصوص باسم أن: الأفهام متغايرة. ولا بد من قبول الرأي الآخر.

          الثانية: قد ترى من يقوم بالنقد والنصـح والتذكيـر والإنـكار بما يقتضيه الموقف، وبيان الأخطاء التي يجب أن تتوقى في عمل إسـلامي أو فعل عام، أو اجتهاد خاطئ من قبل عالم متبوع أو داعية مقلد، فيصادر النصح، ويقمع التذكير، ويكبت الإنكار، ويتهم أصحابه بالجهالة والغرور والعمالة والفسق والفجور والنفاق... إلى آخر المصطلحات القاتمة التي يعبث بها العابثون، فيتهمون الناقد بتوجيهها إليهم، في حين يقومون بتسديدها له سهما إثر سهم يقطعون أوصال الأخوة الإسلامية، ويقطعون أرحامهم، ويظهر بعضهم اقتفاء منهج السلف، وترك آثار من (تلف) ، ويظهر آخرون منهم أنهم أول المؤمنين بالحوار، والنابذين للصنمية الشخصية، وأفعالهم قد تبدي لنا غير ذلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل. [ ص: 160 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية