الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          بين وجهة النظر الشخصية، والالتزام بالشرع

          ربما اعترض معترض: بأنه لا خلاف في الرجوع إلى النص عند التنازع، ولا خلاف في جعله معيارا للإنكار والتذكير، ولا يعقل أن تجعل نصوص الأئمة مقابل النص، ولكن القاعدة السابقة تجعل معيار الإنكار هـو مذهب المحتسب عليه ، ما وضعها الفقهاء إلا لأنهم أيقنوا أن اختلاف الأئمة إنما كان في دلالة النص، وكل له قرائنه في نصرة فهمه للنص المعصوم؛ سواء فهم أن النص الذي يرجع إليه يجب تأويله، أو أنه خاص، أو عام، أو مطلق، أو مقيد، أو منسوخ، وكل من المذاهب ينصر رأيه، ويعتقد أنه الحق، ولسان حال كل: «ليس فهمك للنص بأولى من فهمي له». ولذا وضعت هـذه القاعدة.

          وبتعبير آخر قد يقال: لا خلاف في الأخذ بالنص. بل عندما تدعي أن النص «الشرع» معك في مسألة معينة اختلفنا فيها ندعي -نحن- أن النص معنا فيها، فما تقول بأنه حرام لدليل نقول هـو حلال لدليل، فضابط أن يكون معيار التذكير بالإنكار هـو النص، لا خلاف عليه، لكنه غير ضابط لاختلاف الأنظار فيه.

          هذه الشبهة صارت شنشنة عصرية يرددها غير المتخصصين، وأحيانا يرددها خصوم الشريعة، ووقع فيها بعض المتخصصين، ولذا باتت ترددها أعمدة بعض الصحف الليبرالية عند مناقشة أي قضية من زاوية إسلامية، وصار سلاح (هذا فهمك للنص، ووجهة نظرك فيه، فلا تفرضها على غيرك) ، سلاحا فعالا عند العلمانيين تلقفه بعض الإسلاميين تحت [ ص: 142 ] وطأة الانهزام النفسي، والضغط الهائل على أمة الإسلام من كل جهة.

          وقد كانت نتيجة ذلك في العصور المتأخرة للدولة الإسلامية قبل حل الخلافة العثمانية أن يكون لكل مذهب قاض في المدينة الواحدة، وقد يتطور الأمر إلى أن يكون لكل مذهب إمام في الصلاة [1] ، وأما بلاط الحكم -أي: مقر الحكم المملوكي، أو الخلافة العثمانية- فإنه يكون متمذهبا بمذهب واحد.

          ولكن النتيجة الخطرة لاستقرار هـذا النوع من التعامل مع النص -إن نجح في العصر الحديث- أن يرضى بالعلمانية بديلا عن تحكيم الشريعة؛ وذلك لأن كل إنسان -بحسب هـذه الشبهة- لا ينبغي له أن يفرض (رأيه الفقهي) على الآخر، فيصير الأمر فوضى، أو يقبل بالمذاهب المختلفة، وفضا للنـزاع بين المذاهب (الفهوم) المختلفة، فالمقترح المناسب لموضة العصر هـو العلمانية التي تكفل لكل مذهب (فهم) حريته، وتبقى الدولة في منأى عن ذلك، وتختار الفهم المناسب لها.

          أما في الواقع الحالي فإن مذهبية بعض الاتجاهات الإسلامية المعاصرة قد بلغت من الاختلاف حدا كبيرا في فترة وجيزة، عند مقارنتها بنشأة المذاهب الفقهية الإسلامية، وبداية التعصب فيها، وصار خصوم الإسلاميين يرون العلمانية الحل الأمثل للجمع بيـن هـذه التيارات التي لم تجمعها مقاصد الدين، ونصوصه القطعية.

          فهي شبهة ذات شقين: هـل كل مسألة خلافية يقبل فيها بكل الآراء لمجرد أنها خلافية، ويهدر النص لمجرد الاختلاف في دلالته؟ وفي مقابل ذلك فإن كثيرا من الناس يجعلون رأيا قيل في مسألة اجتهادية أمرا قاطعا تدور [ ص: 143 ] حولـه الولاءات، وتقطع من أجله الصلات الشرعية القطعية، مع أن هـذا الرأي يعبر عن صاحبه، ووجهة نظره في فهم المسألة والنظر في الفتوى الشرعية المناسبة لها من خلال النصوص والمقاصد العامة.

          وأما الجواب على هـذه الشبهة فيتمثل أساسا في: أن الخلاف في بعض المسائل إنما نشأ بسبب غياب النص من حافظة المجتهد، وهذه الشبهة مبنية على أن إمام المذهب ثم أتباعه من بعده قد أحاطوا بالنصوص علما، بحيث تبقى المشكلة فقط في دلالة النص. وهذا خلاف نصوص أئمة المذاهب المتقدمة، كما أنه لا يجرؤ أحد على التصريح به، فإن الخطأ في الاجتهاد قد يعرض «إما بخفاء بعض الأدلة حتى يتوهم فيه ما لم يقصد منه، وإما بعدم الاطلاع عليها جملة» [2] ؛ ولذا قال الشافعي منبها على هـذا التقعيد النفسي الفاسد في النظر إلى أئمة المذاهب المتبوعة: «ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قولي» [3] .

          فما الذي يجب عند ذلك ؟

          لقد قعد الإمام الشافعي القاعدة التي تجب إزاء ذلك، فقال: «أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد» [4] .

          وقال ابن عابدين مبينا علة إمكان أن تنسب بعض الاختيارات الشافعية للحنفية : «لأن ما صح فيه الخبر بلا معارض فهو [ ص: 144 ] مذهب للمجتهد، وإن لـم ينص عليه؛ لما قدمناه في الخطبة عن الحافظ ابن عبد البـر والعارف الشعرانـي عن كل من الأئمة الأربعة أنه قال: (إذا صح الحديث فهو مذهبي.) » [5] .

          ولذلك صرح عدد من علماء المذاهب بظهور القول الصحيح بعد وفاة إمام قال بقول غير صحيح؛ لعدم علمه بالدليل، ومن ذلك ما قاله الشعراني : «فإن قلت: فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي ولم يأخذ بها؟ فالجواب: الذي ينبغي لك أن تعمل بها فإن إمامك لو ظفر بها وصحت عنده لربما كان أمرك بها، فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة، ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه، ومن قال: لا أعمل بحديث إلا إن أخذ به إمامي. فاته خير كثير، كما عليه كثير من المقلدين لأئمة المذاهب، وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذا لوصية الأئمة، فإن اعتقادنا فيهم أنهم لو عاشوا وظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم لأخذوا بها، وعملوا بما فيها، وتركوا كل قياس كانوا قاسوه، وكل قول كانوا قالوه» [6] .

          إن كثيرا من مسائل الفقه، التي يحتاج إليها الناس وتعم بها البلوى، ويفتون بها هـي ثابتة بالنص أو الإجماع، وإنما وقع النـزاع فيها لعدم وصول الدليل، لا للتنازع في دلالته، والمراد أن الكثير من مسائل الفقه في الأمور الدينية المحضة قد اختلف فيها، لكن ظهر القول الراجح فيها بعد الاختلاف، كما في النص على التعامل مع نازلة الطاعون، التي اختلف [ ص: 145 ] فيها الصحابة، من العشرة المبشرين والمهاجرين والأنصار ومعهم مسلمة الفتح، ثم استبان الراجح بما رواه لهم عبد الرحمن بن عوف . على أن ميدان المسائل الاجتهادية ما زال بعد ذلك واسعا جدا سواء كان في الأمور الدينية المحضة، أو الدنيوية المحضة، أو الدينية غير المحضة؛ ومثال ذلك الصلاة، فإن أصل حكمها وأصل حكم تاركها بالكلية، وأصل أركانها التي تكون ماهيتها العامة كل ذلك معلوم يدخل ضمن النص أو الإجماع، وفي كتب الفروع خلافات واسعة واجتهادات كبيرة في تفاصيل الصلاة بعد ذلك.

          والمعتمد في الخلاف فيها عدم الإنكار بالتجريح والحط على المخالف، بل بيان الحجج العلمية مع عدم ضيق كل من الطرفين نشر حجج الآخر بأمانة وحسن ظن عند مناقشتها.

          ومثال ما ظهر فيه القول الراجح مما ورد فيه الخلاف: «كون الحامل تعتد بوضع الحمل لا بأطول الأجلين، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينـزل، وأن ربا الفضل حرام، وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يقتل بكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضرا وسفرا، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار... إلى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل.

          وعلى كل حال فلا عذر عند الله عز وجل يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هـذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي [ ص: 146 ] لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره، وقلد من نـهاه عن تقليده، وقال له: لا يحل لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وإذا صح الحديث فلا تعبأ بقولي. وحتى لو لم يقل له ذلك كان هـذا هـو الواجب عليه وجوبا، لا فسحة له فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يسعه إلا اتباع الحجة» [7] .

          ومن ثم فلا يصح أن تختلف الأنظار في المسائل التي جاء النص فيها صريحا، ويؤخذ بظاهره إذا استثني ما يجب تأويله لسبب علمي منضبط، ويعضد بعمل السلف الصالح؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول:

          ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) (البقرة:187) ،

          فكيف بمن تعداها؟

          إلا أن وجهة النظر الشخصية تبرز بين المجتهدين في مسائل كثيرة، ضمن إطار المسائل الاجتهادية، وليس في كل مسألة خلافية، وقد تقدم أنها غير ملزمة إلا لصاحبها، أو من ظهر له رجحان قوله أو اطمـأن إلى تقليده. واختلاف الآراء في المسائل الاجتهادية «راجع في الحقيقة إلى الوفاق؛ لاتفاق أطرافه على تحري مقصود الشارع، وهو واحد» [8] .

          بين عصبيتين

          وفي الوقت الراهن فإن أمر العصبية العصرية قد سرى سريانا غريبا إلى كثير من الأحزاب والاتجاهات والجماعات الإسلامية المعاصرة، حتى صار أصلا من أصول الممارسات اليومية عندها، ونمى في العقل الباطن [ ص: 147 ] لأفرادها، بل أصبح جزءا من التركيبة النفسية لهم، وفاق العصبية العارضة التي كانت تعتري بعض أتباع المذاهب، وتتمثل هـذه العصبية في أمرين:

          الأمر الأول: الإصرار على تقديم وجهة النظر الشخصية في المسائل التي يوجد فيها نص، فيكون مأخذ القائل فيها ضعيفا بعيدا، لكنهم يصرون عليها كأنها نص منـزل، ثم يقمعون كل من يحاول النصح وبيان النص للعامة، ويمنعون كل من يبرز خطأهم في تلك المسألة، فتصبح وجهة النظر الشخصة هـي الأصل، وتتأول لها النصوص.

          ويرحم الله الإمام العز بن عبد السلام فقد اشتكى بمرارة من ظاهرة العصبية المذهبية لمتبوع مع ضعف مأخذه، قائلا: «ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، ومع هـذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه؛ جمودا على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس... وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده، فالأولى ترك البحث مع هـؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه. ولم يعلم المسكين أن هـذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره، حتى حمله على مثل ما ذكر، وفقنا الله لاتباع الحق أين ما كان وعلى لسان من ظهر، وأين [ ص: 148 ] هـذا من مناظرة السلف، ومشاورتهم في الأحكام، ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم، وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما ناظرت أحدا إلا قلت: اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه. فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته» [9] .

          وإذا قارنا بين هـذه الصورة التي رسم ملامحها الإمام العز بن عبد السلام وبين واقع العصبية المعاصرة في بعض الحركات والجماعات، نجد أن التعلل بالأعذار هـي ذاتها عند محاولة المناقشة لما تصدره قيادات هـذه الحركات من فعاليات فكرية أو عملية، وتقويمها، والنقد لها.

          الأمر الثاني: الإصـرار على منع الآراء الأخـرى في المسـائل التي لا تعدو أن تكون اجتهادية، والرأي فيها مجرد رأي، وقد يقدر على أحسن منه، مع أن الأصل الإكثار من السماح بظهور الآراء المختلفة، وتنمية هـذا الحس رغبة في الوصول إلى أحسن ما يمكن أن يوصل إليه.

          التوسع في (الفهوم)

          إن مسألة الفهم للنص، وكون فهم فلان له ليس بأولى من فهم مقابله -على ما جاء في الشبهة- أمر صحيح في المسائل الاجتهادية مما سبق بيانه، ولكنه غير صحيح على إطلاقه؛ أي: غير صحيح أن يقال في كل مسألة خلافية؛ إذ قد يكون الفهم عملا بالظاهر، والقرائن التي تحف به تقتضيه أو تنفيه، وقد يكون الفهم تأويلا صحيحا، وقد يكون تأويلا فاسدا، وقد يكون الفهم تحريفا للكلم عن مواضعه، فهل كل فهم يقبل [ ص: 149 ] حتى يقال: ليس فهم فلان بأولى من فهم الآخر؟ إن للفهم ضوابطه التي يقبل بها، وموازينه التي يوزن بها، فهو ليس مرسلا على عواهنه.

          وتكمن المشكلة في أن النـزاع لو رد إلى المذاهب (الفهوم) لآل ذلك إلى أن يكون الدين بالهوى والتشهي، فيختار كل ما هـو أسهل له في الخلاف؛ إذ يعتبره فهما للنص، فلا مناص من الرجوع إلى النص معيارا للتذكير والإنكار، فهو السبيل للخروج من الهوى وفق الضوابط المعلومة، وقد جعل الشاطبي -رحمه الله تعالى- ذلك في مسائل الخلاف «ضابطا قرآنيا ينفي اتباع الهوى جملة؛

          وهو قوله تعالى: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) (النساء:59) ،

          وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد الرجوع إلى الأدلة الشرعية من كتاب وسنة صحيحة، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة، فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجـوع إلى الله والرسـول، وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هـواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت،

          ولذلك أعقبها بقوله: ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ) (النساء:60) الآية» [10] .

          لذلك فإن ظاهر النص، أو تأويله الصحيح لا يصادر بهذه المقولة: (هذا فهمك للنص) ؛ لأن المسائل الشرعية التي يختلف عليها يجب -عند بحثها- [ ص: 150 ]

          سلوك السبيل العلمي المنهجي القويم لفهمها، الذي يتمثل في:

          - النظر في النص ثبوتا ودلالة، وفق قواعد الأصول وضوابط الفقه، ثم في الفهم النبوي له، ثم في التطبيق النبوي لمدلوله، ثم في بيان الصحابة له وعملهم، الذي يوضح فهمهم له (في ضوء أصول الشريعة) [11] .

          - الرجوع في كل شأن علمي إلى مكان الاختصاص فيه، فإن كان الاختلاف في التفسير فيرجع إلى المفسرين، وإن كان في الحديث رجع إلى المحدثيـن، وإن كان في اللغة رجع إلى أولي العلم بها، وإن كان في الفقه رجع إلـى الفقهاء؛ لأن كلا منهم في اختصاصه يكون من أهل الذكر.

          - أن يكون المستنبط من أهل الاجتهاد، أو ممن يحق له البحث في تلك المسألة (الاجتهاد الجزئي) ، وقد امتلك أدواتها.

          - نبذ ما وقع فيه العلماء من زلات، وإن كان هـذا لا يعد طعنا فيهم، كما سبق، فلا يقبل فهمهم له؛ بمعنى أننا لا نقبل الفهم الذي تدل الدلائل على أنه زلة، مع بقاء مكانة القائل دون بخس أو هـضم أو غلو.

          - اصطحاب التفريق بين نوعي المسائل العامة: المسائل الاجتهادية التي لا تنكر على القائلين بقول اجتهادي فيها، والمسائل الخلافية، كما سبق.

          كل هـذه الترتيبات العلمية، تضيق هـوة التوسع في فهم النص، وتضبطه. [ ص: 151 ]

          من آداب الوصول إلى فهم النص

          إن من آداب الوصول إلى هـدى الله عز وجل الحق من فهم النص: أن يقدم النص على الرأي الشخصي والقناعات المسبقة؛ إذ شأن القناعات المسبقة تأويل النص وفق الهوى، " وقد أشار ابن مسعود رضي الله عنه إلى هـذا بقوله: «إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن، وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون فيه الصلاة ويقصرون الخطبة، يبدون أعمالهم قبل أهوائهم. وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة، يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم» " [12] .

          فالهوى الشخصي، أو الاستجابة لضغوط الواقع، ورغبات الفئات المختلفة، أو تكوين القناعات المسبقة قبل معرفة الهدى في النص يجعل سوء العمل مزينا كأحسن العمل، وفرق بين البينة والتزيين، وهو ما كان ينأى عنه السلف الصالح، إذ معنى " يبدون أهواءهم قبل أعمالهم " ؛ أي: يتبعون أهواءهم، ويتركون العمل الذي افترض عليهم [13] ، ولذا كان السلف يرجعون إلى النص عند وضوحه، فكم رجع عمر إلى قول أبي بكر ، أو إلى قول علي ، وكم رجع أبو هـريرة إلى قول أمهات المؤمنين. [ ص: 152 ] فالخلاف في المسائل الفقهية واقع لا ريب فيه، ولكن لا بد في النظر إلى النص من حيث السبيل المنهجي، ومن حيث الأدب العلمي، ومن حيث المقاصد العليا للشريعة؛ إذ إن الاسـتدلال بالشـريعة حتى على ما يظهر أنه ليس منها بديهة قائمة إن لم تراع الآداب السابقة، بل قد ظهر للعيان أنه لا يوجد أحد من المجادلين في المسائل الشرعية إلا استند على ما جعله له دليلا، وخالف فيه، فهل يقال في خلافه: إنه مصيب؟ حتى قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: «ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة، ولا أحدا من المختلفين في الأحكام يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، بل قد رأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفقه بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنـزهة... فهذا كله يوجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل، فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل» [14] .

          ولذا فعند وصول دفاع الحجاج في المسألة الخلافية -غير الاجتهادية- إلى الحد الذي يدعي فيه كل من الطرفين بروز فهمه للنص المعصوم على الآخر، يأتي فاصلا بينا ( قول النبي صلى الله عليه وسلم : «استفت قلبك، واستفت نفسك -ثلاث مرات- البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك ) [15] . [ ص: 153 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية