الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          القواعد الفقهية

          السمات العامة، ومرتكزات المعالجة

          خصائص وسمات القواعد الفقهية

          لعله من الأهمية بمكان في مستهل هـذا البحث الإشارة إلى أن القواعد والضوابط الفقهية بشكل عام إنما وضعت لتقريب استيعاب المسائل الشرعية، خاصة في جزيئات الفقه المشتهرة بين أهل العلم بـ: (علم الفروع) ، وهي تتميز بمجموعة من الخصائص، من أهمها:

          1 - أنها صياغة بشرية: وضعها الفقهاء استنباطا، وهذا يجعل حصر جميع متعلقاتها الشرعية أمرا فوق الطاقة البشرية [1] ، ومن ثم فهي أغلبية تشمل معظم الجزئيات التي تتعلق بها وليست كلية، والغاية من وضعها أن: «تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه من مآخذ الفقه على ما كان عنه قد تغيب، وتنظم له منثور المسائل في سلك واحد, وتقيد له الشوارد، وتقرب عليه كل متباعد».

          2 - أنها نسبية: شأنها شأن كثير من الضوابط العلمية في اللغة والنحو والقراءات، التي وضعت في وقت متأخر عن نشوء العلم المعين [ ص: 31 ] الذي يتلقى تلقيا، وحاول واضعوها إدخال عدد من الجزئيات العلمية فيها، ولذا تجد أن أهل ذلك الفن يكثرون من الاستثناءات من ذلك الضابط في فنهم. ومن ثم فقد يقال بأن القاعدة الفقهية المعينة صحيحة بالنسبة لهذه الجزئية غير صحيحة بالنسبة لأخرى، ويترتب على هـذا أن يستعان بالقاعدة للرجوع إلى النص المتعلق بها، ويجعل القاعدة الفقهية محل استشهاد لا استدلال.

          3 - أن فهمها إنما يكون بحسب ما يفهم منها أصـل الوضع لا بحسب ما يعطيه العقل من ظاهر لفظها: مما يعـني عـدم الاغترار بما يظهر من تعميم لعبارات أهل الفنون واصطلاحاتهم وتطبيقها على القضايا المتناولة مع عدم بذل الجهد في معرفة طبيعة القاعدة، وقرائنها الحالية المصاحبة، وأصل وضعها.

          4 - أهمية الحذر من الانسياق إلى التعميم في الأدلة والقواعد قبل الفحص: ذلك أن كثيرا من نصوص القواعد الفقهية توهم العموم المطلق، وهذا يحتاج إلى التروي فيه. وإذا كان العموم المطلق في الأدلة الشرعية مما يتروى في الاستدلال به فأولى أن يكون ذلك في القواعد الفقهية البشرية الوضع.

          وقريب من هـذا أن ظاهر بعض القواعد الفقهية ذاته قد يكون خاضعا لعصر معين أطلقت فيه تلك القاعدة: ومثلها القواعد الأصولية فمصطلح: (سنة) ، تختلف دلالتها الأصولية والفقهية الخاصة عن معناها [ ص: 32 ] الشرعي العام، ومن ذلك " قول ابن عباس : «الله أكبر سنة أبي القاسم» " [2] في حج التمتع؛ يعني بها: طريقة النبي صلى الله عليه وسلم الشاملة للوجوب والاستحباب، ومثله " قول ابن مسعود : «ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم» " [3] ... بينما هـي في اصطلاح الأصوليين مرادفة للمندوب غالبا.

          5 - لا بد من مراعاة التطور الدلالي في فهم القواعد الفقهية [4] : «لأن دلالة الخطاب إنـما تكون بلغة المتكلم وعـادته المعروفة في خطابه، لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته كما قال سبحانه وتعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) (إبراهيم:4) » [5] .

          وهذا كله يوجب على المستشهد بقاعدة فقهية أو ضابط علمي أن يلتزم نوعا من الورع القلبي والعلمي الخالص؛ لكي يتمكن من الوصول إلى البينة الحقيقية في المسألة محل البحث لا أن ينقاد للهوى المزين كأنه بينة

          كما قال سبحانه وتعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ) (محمد:14) . [ ص: 33 ]

          6 - بناؤها على أساس النصوص: فالنص الشرعي هـو مرجع القواعد الفقهية، وإليه تحـاكم، فلا يغالى فيها حتى يحاكم النص إليها، فإذا جاءت القاعدة مخالفة للنص الشرعي اطرحت واتبع النص الشرعي ضرورة؛ إذ كيف تعود على أصلها بالإبطال؟

          7 - بعض القواعد الفقهية مجرد ضوابط لفهم نص بعينه أو مجموعة نصوص، وليست قواعد مطردة: ومن ذلك مثلا قاعدة: « النص الوارد على خلاف القياس يقتصر على مورده »، أوردوها لفهم جواز بيع السلم ، وبيع الاستصناع ، وبيان وجود نص دل على جوازهما مع أنهما على معدوم، بخلاف غيرهما من العقود التي تكون على معدوم فتدخل في إطار نص آخر يمنعها، فالقاعدة هـنا مجرد بيان لعدم جاز القياس على هـذين العقدين [6] .

          8 - التقابل بين القواعد الفقهية الذي يؤدي إلى التكامل: ذلك أنه بسبب النسبية والوضع البشري في القواعد الفقهية، ولكونها أغلبية فإن كل قاعدة يقابلها -في الغالب- قاعدة أخرى، حتى يتم ضبط المسائل الشرعية من جميع الجوانب المأمور بها [7] ، ومثال ذلك: قاعدة « الضرورات [ ص: 34 ] تبيح المحظورات » لم تف بضبط الـنص الذي هـو أصلها، وهو:

          ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) (البقرة:173) ،

          فأردفوها بقاعدة أخرى تكملها وتضبطها، وهي: « ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها ».

          وفي ضوء هـذه الخصائص والسمات منع أهل العلم الإفتاء المحض بموجب القواعد الفقهية دون تدبر في أصولها النصية، وتحرير لمحل الفتوى: هـل يدخل فـي هـذه القاعـدة أو تلك، ولـذا قال الإمـام ابن نجيم : «لا يجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط؛ لأنـها ليست كلية بل أغلبية، وقال ابن دقيق العيد : الفروع لا يطرد تخريجها على القواعد الأصلية» [8] .

          وعلى هـذا أيضا تكون القواعـد الفقهية محل استشهاد لا استدلال [9] ، ولا يصح للمفتي أن يرد استدلاله على فتوى معينة إلى هـذه القاعدة أو تلك، بل يستعيـن بالقاعدة للرجوع إلى النص المتعلق به، إلا أن يكون متأكدا من دخول الجزئية المعينة تحت هـذه القاعدة، مع الأخذ بعين الاعتبار ما سبق من خصـائص القواعـد الفقهية، فلا بأس على ما هـو الشـائع في فتاوى أهل العلم. [ ص: 35 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية