الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          من أقوال الأئمة الأربعة في معيار الإنكار:

          النقول عن الأئمة الأربعة -رحمهم الله- في معيار الإنكار كثيرة،منها:

          أولا: من أقوال أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وتقعيداته للمذهب:

          1 - «إذا صح الحديث فهو مذهبي» [1] .

          2 - «...لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه.» قاله أبو حنيفة وأبو يوسف [2] .

          3 - «...وإذا قلت قولا يخالف كتاب الله سبحانه وتعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي» [3] .

          وفي بيان ذلك يقول ابن الشحنة : «إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عمل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه، ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيا بالعمل به؛ فقد صح عن أبي حنيفة أنه قال: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) . وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة» [4] .

          فصار ما يدل عليه الدليل قول للإمام، وإن لم يقل به بخصوصه؛ لأنه قعد قاعدة عامة يتحاكم إليها في المسائل الجزئية، كما قال ابن عابدين : «قد يجاب بأن الإمام لما أمر أصحابه بأن يأخذوا من أقواله بما يتجه لهم منها عليه الدليل صار ما قالوه قولا له؛ لابتنائه على قواعده التي أسسها [ ص: 116 ] لهم، فلم يكن مرجوعا عنه من كل وجه، فيكون من مذهبه أيضا... فإذا نظر أهل المذهب في الدليل وعملوا به صح نسبته إلى المذهب؛ لكونه صادرا بإذن صاحب المذهب، إذ لا شك أنه لو علم ضعف دليله رجع عنه، واتبع الدليل الأقوى» [5] .

          وفي هـذا النقل أبلغ القول على تثبيت حقيقة رجوع الأئمة وأتباعهم المجتهدين إلى النص عند الاختلاف، ومن ثم فهو معيار الإنكار؛ لأن ما صح فيه الخبر بلا معارض فهو مذهب للمجتهد، وإن لم ينص عليه.

          ثانيا: من أقوال مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وتقعيداته للمذهب:

          1 - «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه» [6] .

          2 - وهنا قصة توضح رجوع الإمام مالك إلى النص، وعدم علمه السابق به، فقد قال ابن وهب : سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس على ذلك الناس. قال: فتركته حتى خف الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة. فقال: وما هـي؟ قلت: ( حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث ، عن يزيد بن عمرو المعافري ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن المستورد بن شداد القرشي قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه». ) فقال: إن هـذا حديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة. ثم سمعته بعد ذلك يسأل، فيأمر بتخليل الأصابع [7] . [ ص: 117 ]

          ثالثا: من أقوال الشافعي رحمه الله تعالى، وتقعيداته للمذهب:

          1 - «ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قولي» [8] .

          2 - «أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد» [9] .

          3 - «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوا ما قلت» ، وفي رواية: «فاتبعوها، ولا تلتفتوا إلى قول أحد» [10] .

          4 - «إذا صح الحديث فهو مذهبي» [11] .

          5 - «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا قولي» [12] .

          6 - «أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفيا أو بصريا أو شاميا، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا» [13] . [ ص: 118 ] 7 - «وكل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت؛ فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي» [14] .

          8 - «وإذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب» [15] .

          9 - «كل ما قلت فكان النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى، فلا تقلدوني» [16] .

          رابعا: من أقوال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وتقعيداته للمذهب:

          1 - «لا تقلدوني ولا تقلد مـالكا ، ولا الشافـعي ، ولا الأوزاعـي ، ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا» ، وفي رواية: «لا تقلد دينك أحدا من هـؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير» . وقال مرة: «الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هـو من بعد التابعين مخير» [17] .

          2 - «رأي الأوزاعي، ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار» [18] .

          وهذه النقول توضح أسسا علمية هـامة في مجال الاجتهاد ومجال البحث العلمي، وآداب الاختلاف، منها: [ ص: 119 ] 1 - رجوع الأئمة عند التنازع إلى النص، وجعله معيار الإنكار والتذكير العام، وهذا إجماع لا ريب فيه كما قال الشيخ ولي الله الدهلوي :

          «فلم يبح الله تعالى الرد عند التنازع إلى أحد دون القرآن والسنة، وحرم بذلك الرد عند التنازع إلى قول قائل؛ لأنه غير القرآن والسنة، وقد صح إجماع الصحابة كلهم أولهم عن آخرهم، وإجماع التابعين أولهم عن آخرهم على الامتناع والمنع من أن يقصد منهم أحد إلى قول إنسان منهم أو ممن قبلهم، فيأخذه كله. فليعلم من أخذ بجميع أقوال أبي حنيفة ، أو جميع أقوال مالك ، أو جميع أقوال الشافعي ، أو جميع أقوال أحمد رضي الله عنهم ، ولم يترك قول من اتبع منهم أو من غيرهم إلى قول إنسان بعينه أنه قد خالف إجمـاع الأمة كلها، أولها عن آخرها، بيقين لا إشـكال فيه، وأنه لا يجد لنفسه سلفا ولا إنسانا في جميع الأعصار المحمودة الثلاثة، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، نعوذ بالله من هـذه المنـزلة» [19] .

          2 - الأئمة كغيرهم من البشر يفوتهم من العلم ما هـو لازم نقصانهم، ولا يحط هـذا من مكانتهم، وأن أقوالهم في المسائل الاجتهادية تظل آراء على الرغم من قيمتها العلمية، وصدورها من أهل الذكر الذين هـم جهة الاختصاص للإفتاء في المسائل الشرعية، ولكن ينظر في أدلة كل وحجته، دون تثريب على الآخر، لمن أراد التفحص والبحث.

          3 - تأكيد الرجوع إلى النص عند استبانة مخالفته بالعمل بقول واحد منهم، والزجر الشديد عن تقليدهم حال ظهور أنه يخالف النص.

          4 - لا يعني هـذا الحط من مكانة المذاهب كطرق تعليمية متدرجة [ ص: 120 ] للفقه الإسلامي الرحب، ولا الخروج على الناس بمذهب اللامذهبية، إذ ما نمت المذاهب إلا نمو الاصطلاحات الفقهية التي لم تكن بارزة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لتسهل الفقه، وتفرعه تفريعا مناسبا، وليست هـي خطأ بذاته، بل الخطأ ما قد يصحبها من تعصب، أوتحزب [20] ، حتى عد الإمام السيوطي اختلاف المذاهب منة كبرى، ونعمة ظاهرة... وهي كذلك، وخاصة في بحثها لمظان هـدى الله، ورجوعها إلى النصوص الشرعية وضوابط فهمها، والتثبت منها عند الاختلاف [21] .

          وهنا يجب اصطحاب قاعدة أساسية في التعامل مع أهل العلم في أقوالهم التي ترد في المسائل الخلافية، وهي: أنه لابد من أمرين، أحدهما أعظم من الآخر:

          أحدهما: النصيحة لله ولرسوله وكتابه ودينه، وتنـزيهه عن الأقوال الضعيفة الخاطئة أو المخطئة المناقضة لما بعث الله سبحانه وتعالى به رسوله من الهدى والبينات، إذ هـي «خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، وبيان نفيها عن الدين، وإخراجها منه، وإن أدخلها فيه من أدخلها بنوع تأويل» فإنه «لا حجة في قول أحد مع السنة [22] » [23] . [ ص: 121 ] «والثاني: معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول، فقالوا بمبلغ علمهم، والحق في خلافها لا يوجب اطراح أقوالهم جملة وتنقصهم والوقيعة فيهم، فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما، فلا نؤثم ولا نعصم» [24] .

          فمخالفة الأئمة في مسألة ما ظهر أن الراجح فيها ليس في أقوالهم «لا يغض من أقدارهم، ولا يسوغ اتباعهم فيها» [25] ، كما أنه «ليس في قول العالم: إن هـذه المسألة قطعية أو يقينية، ولا يسوغ فيها الاجتهاد. طعن على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب» [26] .

          وهذا ما رأينا عليه الصحابة رضي الله عنهم تطبيقا حين ترد عليهم المسائل التي اختلفت فيها أنظارهم، فيثنون على المخالف، ويبينون عذره فيما أخطأه، ثم يبينون الصواب، وفعل عائشة خير مثال، وقد تشتد أحيانا في نفي ما تراه مخالفا للشريعة في نصه أو مراميه. وفي ذلك قال بعض أهل العلم:

          وإذا أتتك مـقالة قد خـالفت نص الكتاب أو الحديث المسند     فاقف الكتاب ولا تمل عنه
          وقف مـتأدبا مع كـل حبر أوحد     فلحوم أهل الـعلم سم للجناة
          عليهم فاحفظ لسـانك وابعد [27]

          وهذا يقودنا إلى بيان حقيقة هـي النتيجة لما سبق؛ وهي التي توضح بصورة أجلى معنى هـذه القاعدة الجليلة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) ، [ ص: 122 ] وهي: أن هـناك فرقا بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد.

          ولكن هـل يفهم من كل ما سبق أن التقليد محرم بالمرة؟

          لا، وليس الكاتب في المقام الذي يتجرأ فيه على مثل هـذا الحكم بعد الخلاف الواسع الوارد في ذلك، ويظهر أن الاختلاف في المسألة يكاد يكون لفظيا، وأن الذين ذكروا أن التقليد محرم، ومنهم ابن حزم ، وابن عبد البر [28] ، وابن القيم ، والشوكاني وغيرهم، محتجين بأن الله تعالى ذم التقليد بقوله:

          ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) (التوبة:31) ،

          وقولـه: ( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ) (الأحزاب:67)

          ونحو ذلك من الآيات. وأن الأئمة قد نهوا عن تقليدهم كما سبق.

          وقد بينوا جواز التقليد العام، إذ بين ابن القيم أن التقليد الذي يرى امتناعه هـو «اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول سواه، بل لا إلى نصوص الشارع، إلا إذا وافقت نصوص قوله قال، فهذا هـو التقليد الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله، ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة» [29] ، وأثبت ابن القيم والإمام ابن الوزير والشوكاني تبعا لابن عبد البر [30] فوق التقليد مرتبة أقل من الاجتهاد، هـي مرتبة الاتباع، وحقيقتها الأخذ بقول الغير مع معرفة دليله، على حد ما ورد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف : «لا يحل لأحد أن يقول [ ص: 123 ] مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا» . وفي بيان الفرق بين التقليد والاتباع، يقول الإمام محمد بن إبراهيم الوزير :

          هم قلدوهم واقتديت بهم فكم     بين المقلد في الهوى والمقتدي
          من قلد النعمان أمسى شاربا     لمثلث نجس خبـيث مزبـد
          ولو اقتدى بأبي حنيفة لم يكن     إلا إماما راكعا في المسجد [31]

          غير أنه لا يظن أن أحدا يخالف أن التقليد -لا بالمعنى الذي ذكره هـؤلاء الأعلام من اتباع كل خطأ وصواب استبان فيه ذلك- يجوز عند الضرورة حتى للعالم فضلا عن العامي، ومن ذلك إذا لم يظفر العالم بنص من الكتاب أو السنة، ولم يجد إلا قول من هـو أعلم مـنه فيقـلده.

          أما التقليد المحرم فهو أن يكون العالم متمكنا من معرفة الحق بدليله، ثم مع ذلك يعدل إلى التقليد، فهو كمن يعدل إلى الميتة مع قدرته على المذكى.

          والتقليد إنما هـو لمن لم يكن قادرا على الاجـتهاد، أو كان قـادرا عليه لكن لم يجد الوقت لذلك، فهي حال ضرورة كما قال ابن القيم . وقد أفتى الإمام أحمد بقول الشافعي ، وقال: إذا سئلت عن مسألة لم أعرف فيها خبرا أفتيت فيها بقول الشافعي؛ لأنه إمام عالم من قريش، وقد ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تسبوا قريشا ، فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما». ) [32] .

          ومن الناحية الدعوية فالأمر ظاهر في واقع الناس، فلا يمكن أن يكون عند كل منهم أهلية الاجتهاد؛ صغيرا وكبيرا، وذكرا وأنثى. [ ص: 124 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية