الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          من أقوال السلف في معيار الإنكار [1] :

          أمر السلف باتباع النص، والرجوع إليه عند الاختلاف، وأظهروا قصور البشر غير المعصومين عن عدم الوقوع في الخطأ، وأكدوا أنه تقع من العالم الزلة، وشددوا في التحذير منها، ومن ذلك:

          - قال مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم: «ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم » [2] ، قال ابن عبد البر تعليقا على ذلك: «هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هـذا المعنى ما ينبغي تأمله». ( فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني أخاف عليكم ثلاثا، وهن كائنات: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تفتح عليكم ) [3] . وقد ورد ذلك في عدة آثار يستأنس بها [4] .

          - " وقد ذكر عن عمر أنه قال لزياد : هـل تدري ما يهدم الإسلام؟ زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون. " [5]

          - " وقال معاذ بن جبل : «...إياك وزيغة الحكيم، وحكم المنافق. فقيل: وكيف لي أن أعلم زيغة الحكيم؟ قال: كلمة ضلالة يلقيها الشيطان [ ص: 111 ] على لسان الرجل، فلا يحملها، ولا يتأمل منه، فإن المنافق قد يقول الحق، فخذ العلم أنى جاءك، فإن على الحق نورا» " [6] .

          - " وعن عقيل ، عن ابن شهاب ، أن أبا إدريس الخولاني عائذ الله أخبره، أن يزيد بن عميرة ، وكان من أصحاب معاذ بن جبل ، أخبره قال: كان لا يجلس مجلسا للذكر حين يجلس إلا قال: الله حكم قسط، هـلك المرتابون. فقال معاذ بن جبل يوما: إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر. فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ما هـم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره؟ فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق... قال قلت لمعاذ : ما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هـذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا. " [7]

          وأنى تعرف زيغة الحكيم وزلة العالم إلا بالرجوع إلى النص؟ وكيف يمكن عد ما صدر عن أي كان خلافا مع احتمال أن يكون زللا وإن كان اجتهادا؟ وهنا بين معاذ رضي الله عنه معيار معرفة الزلل برده إلى النص.

          - " وقال سلمان الفارسي : «كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؟ فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه [ ص: 112 ] دينكم، وتقولون: نصنع مثل ما يصنع فلان. وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان. وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما عرفتم منه فخذوا، وما لم تعرفوا فكلوه إلى الله تعالى. وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هـو دونكم ولا تنظروا إلى من هـو فوقكم». "

          - " وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ويل للأتباع من عثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه، ثم يجد من هـو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيترك قوله ثم يمضي الأتباع» " [8] ؛ أي يمضون على قوله الأول.

          - ومثل ذلك تحذير أهل العلم من نوادر العلماء؛ وهي الشواذ، وفيها قال أبو بكر الآجري : «فليس ينبغي إذا زل بعض من يشار إليهم زلة أن يتبع على زلله، هـذا قد نهينا عنه، وقد خيف علينا من زلل العلماء» [9] . وقد بوب ابن عبد البر لذلك، فقال: باب في خطأ المجتهدين من المفتين والحكام [10] . ومن كلامه السائر في هـذا الموضع: «شبه الحكماء زلة العالم بانكسار السفينة؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير» [11] .

          وهذه الآثار الجليلة، التي نرى فيها أساطين العلم والتربية من الصحابة وكأنهم يوشكون على الاتفاق حول ألفاظ بعينها في التعبير عن معنى واحد، توضح لنا جملة حقائق، منها:

          1 - إن العالم بشر كسائر البشر، فليس كل ما صدر منه هـو الهدى، أو الفعل الحق، أو القول الفصل... بل هـو مجتهد في إصابة الحق، فقد يصيبه فيؤجر أجرين، وقد يخلفه فيؤجر أجرا واحدا، وهذا يجعل [ ص: 113 ] متابعيه وسائليه -من غير العامة المقلدين- يتبصرون في أقواله ويوازنون في فتواه بين أدلته وأدلة غيره، ثم ينظرون أيهما الحق.

          2 - إن وقوع الخلاف بين أهل العلم طبعي يعود لبشريتهم، فإما أن يكون الخلاف لزلة واحد منهم، أو لخطئه، أو لعدم وصـول العلم إليه أو نحو ذلك من الأعذار.

          3 - إن العالم قد يفتي شيئا لا يصح أن يعتمد، وكونه أفتى بشيء خالفه فيه غيره لا يخول اتباعه على أية حال، ولذا كم خالف مقررو المذاهب كلام أئمتهم، وذكروا أن الأصح في غيره، ووضع الشاطبي في ذلك قاعدة جامعة تبين قصور الاستدلال فقط بقول العالم في كل مسألة، ثم الاحتجاج بالخلاف دلالة على أن المسـألة سهلة فقال: «إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بـها تقليدا له؛ وذلك لأنـها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتدا بها لم يجعل لها هـذه الرتبة، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة» [12] .

          وبعضهم يظن أن الخلافيات فيها مصلحة للأمة بالتوسعة عليها، ولكن الـخلافيات قد تكون بعض الآراء الواردة فيها هـي زلات لعلماء، فهي عين مخالـفة النص.

          والعالم وإن كانت زلته دون قصد ولا تعمد، وهو في اجتهاده «معذور ومأجور، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم، وقد قال الغزالي : إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهي في نفسها صغيرة. وذكر [ ص: 114 ] منها أمثلة، ثم قال: فهذه ذنوب يتبع العالم عليها فيموت العالم ويبقى شره مستطيرا في العالم أياما متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه» [13] .

          لكنني أؤكد أن كل ما سبق لا يؤثر على مقدار العالم وتبجيله في وسط المجتمع المسلم، ولا يجعل أتباعه أيضا يتبعونه في كل شيء، ويسلموه دينهم في كل شيء تعصبا، ولا يجعل مخالفيهم يتشغبون عليه وعليهم تفسيقا وتضليلا وتبديعا، بل غاية ما يفعلونه نصحهم بود، وإنكار خطأهم برفق، ولننظر في القصة التالية وكيف تعامل معها محقق كالإمام الذهبي ، فيما لو صحت، فقد قال أحمد بن حنبل : بلغ ابن أبي ذئب أن مالكا لم يأخذ بحديث البيعان بالخيار، فقال: يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. ثم قال: أحمد هـو أورع وأقول بالحق من مالك . قلت: لو كان ورعا كما ينبغي لما قال: هـذا الكلام القبيح في حق إمام عظيم، فمالك إنما لم يعمل بظاهر الحديث؛ لأنه رآه منسوخا، وقيل: عمل به وحمل قوله: (حتى يتفرقا) على التلفظ بالإيجاب والقبول، فمالك في هـذا الحديث وفي كل حديث له أجر ولا بد فإن أصاب ازداد أجرا آخر، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية، وبكل حال فكلام الأقران بعضهم في بعض لا يعول على كثير منه، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه، ولا ضعف العلماء ابن أبي ذئب بمقالته هـذه، بل هـما عالما المدينة في زمانهما رضي الله عنهما [14] ، وقد اعتذر الأمام أحمد للإمام مالك في تأوله لهذا الحديث بما يدل على سعة صدره مع مخالفيه، فقال: « ومالك لم يرد الحديث، ولكن تأوله على غير ذلك» [15] . [ ص: 115 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية