الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          آثار الاستدلال بقاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف)

          الفهم الخاطئ لهذه القاعدة والاستشهاد بها على إطلاقها دون بيان وتفصيل للمراد من مدلولها في العموم كقاعدة، ومن مدلول كلمة (الخلاف) أو كلمة (الاجتهاد) في الخصوص يوقع لبسا كبيرا؛ شأن كل احتجاج بالكلام المجمل دون بيان تفصيلي يتبعه.

          وقد اشتكى كثرة من المحققين من ذلك حتى قال الشاطبي : «وقد زاد هـذا الأمر على قدر الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدودا فى حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فى جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف فإن له نظرا آخر... فربما وقع الإفتاء فى المسألة بالمنع فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها، فيجعل الخلاف حجة فى الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هـو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة، حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا، وما ليس بحجة حجة، حكى الخطابي فى مسألة البتع [1] المذكور فى الحديث عن بعض الناس أنه قال: إن الناس لما اختلفوا فى الأشربة وأجمعوا على تحريـم خمر العنب، واختلفوا فيما سواه، حرمنا ما اجتمعوا وأبحنا ما سواه. قال: وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله تعالـى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول. قال: ولو لزم ما ذهب إليه هـذا القائل [ ص: 79 ] للزم مثله فى الربا والصرف ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلفت فيها، قال: وليس الاختلاف حجة، وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين. هـذا رضي الله عنه مختصر ما قال، والقائل بهذا... قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هـواه لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هـواه...» [2] .

          وهذا الفهم الخاطئ يؤذن بآثار خطيرة، منها:

          1 - تقليل الاعتماد على النصوص، وضعف النظر إليها؛ لأنه لا تكاد تخلو مسألة من خلاف، وذلك بخلاف المسائل الاجتهادية، فالخلاف فيها سائغ، والغلو في الاستدلال بهذه القاعدة يجعلها ترجع على أصلها -وهي النصوص- بالإلغاء والإبطال فتكون ندا للنص، وهذا ما جعل الأمير الصنعاني ينكر على من يستدل بهذه القاعدة في مقابل النص إنكارا شديدا فيقول: «فإن كان هـذا منكرا في عصره – يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ونـهى عنه، فما الذي صيره معروفا بعد وفاته، حتى يقال: لا ننكر؟ هـل بعد وفاته نسخ أو وحي يصير المنكر معروفا؟ ... إن هـذا لشيء عجاب، أبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء يستدرك عليه، ويثبت ما نفاه، ويبطـل إنـكار ما أنكره؟ ليت شعري ما الذي صير طاعته [3] بعد وفاته ليست بواجبة؟» [4] .

          2 - تتبع زلل العلماء وشواذ الأقوال؛ إذ هـي منقولة كخلاف ... ولا بد من التحقيق الدقيق الذي يبين الفارق بين شاذ قول أهل العلم وخلافهم المعتبر. [ ص: 80 ] 3 - تسويق إلى التناول السطحي لاختلاف العلماء، مما ينتج عنه تسـويغ كل من الرأيين الواردين في المسألة الواحدة، ولو كان الخلاف فيها ضعيفا أو شاذا، وهذا يؤدي إلى العمل بالرخص مطلقا، وتؤخذ الأقوال بالتشهي ولو كانت مجرد رأي فقيه،لا دليل له من النص الصحيح، مما يؤذن بانحلال عزائم المكلفين في التعبد، ويصير ما يزعم أنه الشريعة عبادة للهوى، كما قال الشاطبي : «الترخيص إذا أخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حريا بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه ... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب طريق الخروج منها، وهذا ظاهر، وقد وقع هـذا المتوقع في أصول كلية وفروع جزئية كمسألة الأخذ بالهوى في اختلاف أقوال العلماء، ومسألة إطلاق القول بالجواز عند اختلافهم بالمنع والجواز» [5] .

          4 - انهيار قـواعد الإسلام؛ أصوله وفروعه؛ إذ أن أهل البدع إنما خالفوا في مسائل تصدق عليها هـذه القاعدة، وهم لم ينكروا نصا بل حرفوا، وسموا تحريفهم تأويلا، ولا مفر من تطبيق هـذه القاعدة عليهم عند قبولها على إطلاقها، مع تأثر بعض أجلة العلماء ممن لا يشك في دينهم ببعض بدعهم.

          5 - اجتثاث علم الجرح والتعديل؛ إذ إن كثرة من رجال الحديث قد اختلف العلماء في قبولهم وردهم، والتطبيق العملي لهذه القاعدة ألا يبحث عن الراجح في ذلك، بل من جرح أخذ بذلك، ومن عدل أخذ بذلك ... دون إنكار وبحث للراجح. [ ص: 81 ] 6 - تضييع شرائع الإسلام؛ من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة، والتواصي، وأطر الظالم على الحق أطرا.

          7 - اندراس وسائل التقويم الداخلي دخل صفوف الحركات والجماعات الإسلامية، وذهاب أعظم معالم الدين؛ كالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الشوكانـي : «هذه المقالـة (أي: لا إنكار في مسائل الخلاف ) قد صارت أعظم ذريعة إلى سد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما بالمثابة التي عرفناك، والمنـزلة التي بيناها لك، وقد وجب بإيجاب الله عز وجل وبإيجاب رسوله صلى الله عليه وسلم على هـذه الأمة الأمر بما هـو معروف من معروفات الشرع، والنهي عما هـو منكر من منكراته، ومعيار ذلك هـو الكتاب والسنة، فعلى كل مسـلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفا، وينهى عما هـو فيهما أو في أحدهما منكرا، وإن قال قائل بما يخالف ذلك من أهل العلم فقوله منكر، يجب إنكاره عليه أولا، ثم على العامل به ثانيا» [6] .

          وحقيقة الأمر أن لآثار هـذه القاعدة عند الأخذ بها على إطلاقها [7] أثرا بالغا في انحراف المفاهيم العقدية الأساسية، مع أن الأمر واضح في أن القاعدة -بالنظر إلى أصل وضعها- لم يقصد بها الواضعون لها تعميم الإطلاق، كما هـو ظاهر، وهذا ما جعل الشوكاني يقول مبينا خطورة إطلاق هـذه القاعدة: «وأما ما سيأتي للمصنف في السير من أنه: لا إنكار في مختلف فيه على من هـو مذهبه ، فتلك مقالة تستلزم طي بساط غالب الشريعة» [8] . [ ص: 82 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية