الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الإنكار بأسلوب تذكيري أقوى

          يأخذ الإنكار نوعا من الحدة المطلوبة لبعد مأخذ أحد الطرفين عند الاختلاف، ويضعف الخلاف دون أن يؤثر ذلك على حقوق الأخوة الواجبة، ويظهر هـذا في أمثلة عديدة، منها:

          1 - إنكار الصحابة على بعضهم بأسلوب أعلى، من حيث حدة الإنكار، دون الخروج عن حقوق الأخوة العامة والطاعة:

          - فقد أنكرت عائشة رضي الله عنها على زيد بن أرقم رضي الله عنه بيعه وشراءه بما يشبه صورة الربا ؛ فعن العالية قالت: كنت قاعدة عند عائشة رضي الله تعالى عنها، فأتتها أم محبة ، فقالت لها: يا أم المؤمنين، أكنت تعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت: نعم. قالت: فإني بعته جارية إلى عطائه بثمانمائة نسيئة ، وإنه أراد بيعها فاشتريتها منه بستمائة نقدا. فقالت لها: بئس ما اشتريت وبئس ما اشترى، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب [1] .

          - " وكان ابن عمر رضي الله عنهما يوتر من أول الليل، فإذا قام سحرا جمع إلى وتره ركعة، فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها ، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ، إنه ليلعب بوتره، ما عليه لو أوتر أول الليل فإذا قام سحرا صلى ركعتين ركعتين فإنه يصبح على وتر " [2] .

          - وأنكر ابن عمر على ابنه بلال اجتهاده في منع النساء من الصلاة في المساجد؛ ( فعن عبد الله بن عمر ، قال: سـمعت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ) [ ص: 107 ] ( لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها». قال فقال: بلال بن عبد الله :والله لنمنعهن، قال فأقـبل عليه عبد الله فسـبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول: والله لنمنعهن؟ ) [3] .

          وعلى الرغم من أن عائشة تكادت أن توافق هـذا الاجتهاد عندما " قالت: لو يعلم رسول الله ما أحـدث النسـاء بعـده لمنعهن المسجد كما منعت نسـاء بني إسرائيل " [4] . إلا أن إنكار ابن عمر كان شديدا كما هـو ظاهر.

          2 - إنكار الصحابة على الحاكم اختياره بأسلوب أعلى في حدة الإنكار، دون الخروج عن حقوق الأخوة العامة والطاعة:

          - فقد أنكر ابن عباس رضي الله عنهما على غيره نهيهم عن حج التمتع لمجرد اجتهاد أبي بكر وعمر في ذلك، ( فـعنه قال: تمتع النبي صلى الله عليه وسلم فقال عروة بن الزبير : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس : ما يقول عرية؟ قال يقول: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم ... ويقول: نهى أبو بكر وعمر ؟ ) [5] ، وفي رواية: ( قال رجل من بني الهجيم لابن عباس : ما هـذا الفتيا التي قد تشغفت أو تشغبت بالناس: أن من طاف بالبيت فقد حل؟ فقال : سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وإن رغمتم ) [6] .

          - وأنكر ابن عباس على عمر والصحابة الذين قالوا بالعول مع تقادم الأمر، " وقال: أترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا [ ص: 108 ] وثلثا وربعا، إنما هـو نصفان وثلاثة أثلاث، وأربعة أرباع. " " وعن عطاء قال: قلت لابن عباس : إن الناس لا يأخذون بقولي، ولا بقولك، ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثا على ما نقول. قال: فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين. ما حكم الله بما قالوا " [7] .

          وظاهر أن المسألة التي ذكرها ابن عباس اجتهادية، ولكن ابن عباس زاد في حدة إنكاره في مسألة يظهر أن الصواب مع غيره لا معه:

          - ومثل ذلك حدث لأبي الدرداء مع معاوية : ( فعن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هـذا إلا مثلا بمثل. فقال له معاوية: ما أرى بمثل هـذا بأسا. فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معـاوية، أنا أخبره عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه؟ لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى معـاوية أن لا تبـيع ذلك إلا مثلا بمثل، وزنا بوزن ) [8] .

          - الأساس الشرعي التعليمي لارتفاع حدة الإنكار

          ولعل هـذه الحدة في الإنكار عندما يبعد مأخذ أحد طرفي الخلاف مطلوبة أحيانا، ما دامت لا تؤثر على حقوق الأخوة، ووحدة الجماعة المسلمة؛ وذلك لتنبيه الطرف الآخر لبعد مأخذه، وضرورة مراجعته لموقفه. وهذا أسلوب نبوي كريم متبع في التعليم والتنبيه، ومما يشهد له ( قول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنهما عندما قتل الرجل الذي ) [ ص: 109 ] ( نطق بالشهادة عملا بمصلحة متوهمة: «يا أسامة ، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله». قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم ) [9] .

          وهذا الموقف يدل على أمور، منها:

          1 - إن الحدة قد تكون مطلوبة في الإنكار إن ضعف مأخذ أحد طرفي الخلاف.

          2 - لا ينبغي أن تنساق الظنون والأوهام في رصد تصرفات المنتمين لجماعة فكرية، أو حركة إسلامية من قبل أفراد في جماعة أخرى، فيفسرون كل تصرف، ولو كان عملا خيريا أو دعويا محضا، بالسوء لمجرد انتمائه إلى اتجاه فكري أو حركي مغاير، ما هـكذا يظن المسلم بأخيه المسلم. لقد سرت الظنون الكاذبة في أوساط أفراد بعض الجماعات والحركات الحديثة ففرقت المسلمين، وأوغرت الصدور، ودنست صفاء النفوس.

          3 - وقوع الخطأ الذي تزداد فيه حدة الإنكار من قبل طرف لآخر لا يعني غمط فضيلة المنكر عليه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم على الرغم من عتابه الشديد لأسامة أبقاه أميرا على البعوث حتى بعد وفاته، ( ودافع عنه صلى الله عليه وسلم فقال وهو على المنبر: «إن تطعنوا في إمارته -يريد: أسامة بن زيد - فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله، لقد كان خليقا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي، وإن هـذا -يريد: أسامة بن زيد- لمن أحب الناس إلي بعده ) [10] .

          فمتى تنصبغ نفسياتنا الدعوية على جمع هـذه المعاني جميعا؟ [ ص: 110 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية