القول الجامع في معيار التذكير بالإنكار
القول الجامع في معيار التذكير بالإنكار هـو: أن الإنكار يشرع عند ظهور مخالفة النص بضوابط فهمه التي تلقيت منه، وتناقلها أهل العلم في أصولهم وكتبهم، وعلى هـذا تجتمع عبارات أهل العلم.
أبعاد «القول الجامع»
وقد سميناه: «قولا جامعا»، ولم نسمه «راجحا»؛ لأن حقيقة أقوال السابقين تئول إليه، وإنما اختلفت عباراتهم مع أنها تدور حول هـذا المعنى لرغبة كل منهم الدقة في التعبير عن مراده، ولليقين في أن المذاهب المختلفة إنما تدور حول النص، والاستنباط منه. فالحقيقة التي تظهر من استقراء أقوال الأئمة أنها تجتمع على حقيقة واحدة لا يخالف فيها أحد من المتقدمين، أو ظنوا أن الأصلح في المخاطبة أن يعبروا بما عبروا به، خاصة والعلم مزدهر، ودولة الإسلام قائمة قياما دونه كل قيام، ولم يكن قد نبغ من يحمل عباراتهم ما لا تحتمل كما هـو الحال اليوم، ولذا أطلقنا على آرائهم مصطلح: (قول) ، لا: (رأي) ؛ لأنها في الجملة لا تختلف.
وقد أجمع على ذلك المسـلمون؛ بدءا من الصحابة رضوان الله عليهم، كما في " قول ابن عباس رضي الله عنهم : «أراهم سيهلكون؛ أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم . ويقول: نهى أبو بكر وعمر ؟» " [1] ، مرورا بأهل العلم مثل الإمام [ ص: 83 ] ابن حزم رحمه الله تعالى، الذي قال: «ولما وصفناه من أنه إذا لم يكن إجماع فلا بد من الخلاف ضرورة؛ لأنهما متنافيان، إذا ارتفع أحـدهما وقع الآخر ولا بد، وإذا كان كذلك فالمرجوع إليه هـو ما افترض الله عز وجل علينا الرجوع إليه من القرآن والسنة بقوله عز وجل : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) (النساء:59) ،
وقال سبحانه وتعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم : ( وما ينطق عن الهوى إن هـو إلا وحي يوحى ) (النجم:3-4)
وقال عز وجل : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) (النحل:44) ،
فصح أنه لا يحل التحاكم عند الاختلاف إلا إلى القرآن والسنة» [2] .
ويذهب الإمام النووي إلى القول بأنه: «ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا» [3] ، فلم يجعل المذهب هـو المعيار للإنكار،
وقرر أنه: ( لا ينكر مختلف فيه ) ، تقييدا لقاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) بالمسائل التي لا نص فيها، ولا إجماع، ولا قياس جلي.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد صرح في كتابه: «إقامة الدليل على إبطال التحليل» بأن معيار الإنكار هـو النص، وتبعه تلميذه ابن القيم في: «إعلام الموقعين»، حيث وضع لذلك عنوانا ظاهرا هـو: «خطأ من يقول: [ ص: 84 ] لا إنكار في مسائل الخلاف» [4] قائلا: «وكيف يقول فقيه: ( لا إنكار في المسائل المختلف فيها ) ، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابا أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء» [5] ، مبينا أن الإنكار لا يتوجه إلى المسائل الاجتهادية، «وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، لم تنكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلدا» [6] .
وذهب الزركشي إلى أن الخلاف لم يزل: «بين السلف في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه [7] ، وإنـما ينكرون ما خـالف نصا أو إجماعا قطعيا أو قياسا جليا» [8] .
وشدد على ذلك الإمام الشوكاني بقوله: «فالواجب على من علم بهذه الشريعة ولديه حقيقة من معروفها ومنكرها أن يأمر بما علمه معروفا وينهى عما علمه منكرا، فالحق لا يتغير حكمه، ولا يسقط وجوب العمل به والأمر بفعله، ولا إنكار على من خالفه بمجرد قول قائل، أو اجتهاد مجتهد، أو ابتداع مبتدع. فإذا قال تارك الواجب أو فاعل المنكر: قال بهذا فلان، أو ذهب إليه فلان. أجاب عليه بأن الله لم يأمرنا باتباع فلانك، بل قال لنا في كتابه العزيز:
( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم [ ص: 85 ] عنه فانتهوا ) (الحشر:7) ، فإن لم يقنع بهذا حاكمه إلى كتاب الله وسنة رسوله» [9] . وأكد على ذلك أيضا الإمام ولي الله الدهلوي [10] .
لقد قام الإجماع القطعي على اعتبار النص معيار الإنكار والتذكير، لا محيد عنه، ولا محيص منه للمسلمين في التعامل مع المسائل الشرعية، ومما يمكن الاستدلال به لزيادة الاطمئنان:
1 - أن هـذا هـو الذي قام عليه الدليل الصحـيح الصـريح، الذي لا معارض له؛
كما في قولـه عز وجل : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) (النساء:59) ،
( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) (الأعراف:3) ،
( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (النساء:83) .
فالرد عند التنازع إلى غير القرآن والسنة حرام
[11] ، بل إن الرد عند التنازع إلى غير الشريعة المعصومة، والاحتجاج بالقاعدة على النص -عند الشوكاني - يظهر كأنه نوع من التشـريع، وإظهار نبوة جديدة بعد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول الشوكاني : «وربما يقوم في وجهه من يريد تقويم الباطل فيقول له: ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد ) ، فيقال له: ومتى فوض الله سبحانه وتعالى من [ ص: 86 ] يدعي الاجتهاد على الشريعة التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم وجعله حاكما فيها بما شاء، وعلى ما شاء، فإن هـذه نبوة لا اجتهاد، وشريعة حادثة غير الشريعة الأولى، ولم يرسل الله سبحانه إلى هـذه الأمة إلا رسولا واحدا» [12] .
2 - أن هـذا هـو الذي طبقه الصحابة رضي الله عنهم فيما بينهم من مسائل خلافية، وكان يجري بينهم التذكير والإنكار بالمجادلة والمحاورة، ثم يفيء منهم من فاء إلى النص.
3 - أن بعض الصحابة امتنع ومنع من اتباع اختيار الحاكم في المسألة الخلافية، وأنكروا عليه، فكيف غيره.
4 - وهذا هـو الذي قال به السلف الصالح ونصوا عليه.
5 - وهو الذي نص عليه أئمة المذاهب الأربعة، وشددوا على التحاكم إليه.
6 - وهذا هـو الذي تدل عليه عبارات أصحاب الأقوال السابقة عند التحقيق، فإن حاصل ما ذكروه أن هـذه القاعدة الفقهية الجليلة ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) ليست على إطلاقها، بل هـي مقيدة بما لم يخالف فيها نص أو إجماع أو قياس جلي، أما إذا كان القول الآخر ضعيفا، أو بعيد المأخذ، أو ليس له حظ من النظر فالإنكار فيه مشروع.
7 - وهذا هـو السبيل الوحيد لوحدة المسلمين، فإنه لا يمكن جمع المسلمين إلا بردهم إلى النص الصحيح الصريح، بشروط الاجتهاد المعلومة في الاستنباط منه، أما إذا قبل أن يكون المتحاكم إليه هـو المذاهب، ويكون [ ص: 87 ] الخلاف مرجعا كما حدث في القرون المتأخرة فإن الشريعة الواحدة تصير بالمذاهب كشرائع متعددة متنافرة [13] .
ولكن هـل ينسجم هـذا مع قوله
عز وجل : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) (الأنعام:159)
وهل ينسجم مع قولـه عز وجل : ( وإن هـذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ) (المؤمنون:52-53) ؟
نعم، قد تكون التوسعة ظاهرة في اختلاف التنوع بالسر والجهر في البسملة، وبتـنوع عدد تكبيـرات العيد والجنازة، وبالسر والجهر في صلوات الليل مما ورد بكل منها ما صح من الأخبار. وقد تكون التوسعة ظاهرة في اختلاف التضاد ؛ نظرا لاختلاف الاجتهاد فيما يصح فيه مع بقاء عواصم الأخوة والجماعة والألفة وتحري الصواب، ولكن كيف تكون التوسعة في أن يكون الاختلاف دليلا ليختار كل ما يشتهيه ويطلبه، على أنه لا ينبغي أن [ ص: 88 ] ينساق المرء وراء عواطف يتوهمها، ويستدل عليها من حديث محل نظر [14] .
وأن يكون ذلك هـو السبيل الوحيد لوحدة المسلمين؛ فذلك لأن الفقهاء الذين يختلفون في المسألة الواحدة يمكن أن يرد بعضهم على بعض وفق الأدلة العلمية التي يميل إليها كل منهم مع شرح بعضهم لبعض صدره، واطمئنانه إلى صدور اجتهاده عن غيرة للدين، والبحث عن هـدى الله المستقيم، كما كان شأنهم مذ نبغت المذاهب المتبوعة؛ حيث تجري النقاشات بين الليث بن سعد ومالك ، والشافعي وأصحاب أبي حنيفة ، والشافعي إسـحاق بن راهويه وأحمـد بن حـنبل ، وشـيء من ذلك ما نشاهده من حال الدول المتقدمة في هـذه الأيام.
8 - والرجوع عند التنازع إلى الكتاب والسنة الصحيحة، واعتبارهما معيارا للإنكار والتذكير والنصح هـو الذي يوازن بين قاعدة ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد ) وبين القواعد الفقهية الأخرى؛ مثل: ( سد الذرائع ) ، و ( الأخذ بمذهب الاحتياط ) ، و ( استحباب الخروج من الخلاف ) ، و ( اتقاء الشبهات ) ، ( الزجر عن تتبع رخص الفقهاء ) ، وقاعدة ( الحذر من زلل العلماء ) ... فالمسائل الخلافية ليست كالمسائل الاجتهادية التي تظهر فيها الحجج العلمية دون إنكار؛ لقوة الخلاف فيها، لكن زلة العالم في المسألة الخلافية توجب الرجوع إلى النص. [ ص: 89 ] 9 - وهذا هـو الذي ينسجم مع القواعد الشرعية القطعية مثل: وجوب التذكير، والنصيحة، ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجوب التواصي بالحق والتواصي بالصبر، والرد عند التنازع إلى الكتاب والسنة.
10 - إن ذلك هـو الذي يحقق المقاصد الإسلامية؛ من جعل الشريعة هـي الحاكمة، والفاصلة بين المختلفين، وهو الذي يحقق نبذ الهوى، ومخالفته، وإخضاع النفس للشريعة، كما قرر المحققون من العلماء أنه «ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف، كما إذا اختلف المجتهدون على قولين فوردت كذلك على المقلد، فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة فيتبع هـواه وما يوافق غرضـه دون ما يخالفه، وربما استظهر على ذلك بـكلام بعض المفتيـن المتأخرين، وقواه بما روي من ( قوله عليه الصلاة والسلام : «أصحابي كالنجوم ) ... وإن صح فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتى صحابيا أو غيره، فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه، وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين فالحق أن يقال ليس بداخل تحت ظاهر الحديث؛ لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه، فهما صاحبا دليلين متضادين، فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى ... فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها، وأيضا فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلـى المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد، ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هـذا لجاز للحاكم» [15] . [ ص: 90 ] 11 - أن هـذا هـو الكفيل بإرسـاء قواعد الشـريعة التي تبيـن كون الشيء حلالا أو حراما، فإن المعايير السابقة [16] جعلت بيان كون الشيء حلالا أو حراما، منكرا أو معصية أو معروفا عائد إلى ما قرره أصحاب المذاهب، وقد يوجد في المذهب الواحد أكثر من قول، وليست الشريعة هـي ما يقرره فلان من الأئمة بحسب فهمه للشريعة، بل ما ثبت من النص، واتضح فيه فهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كذلك.
وقد شدد العلماء في هـذا الباب على اعتبار النص الصحيح هـو المقياس لاعتبار المنكر منكرا، قال الشوكاني وهو يتكلم عن فقه الاحتساب: « الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هـما العمادان العظيمان من أعمدة هـذا الدين، والركنان الكبيران من أركانه، وهو مجمع على وجوبهما إجماعا من سابق هـذه الأمة ولاحقها، لا يعلم في ذلك خلاف... وظهور كون هـذا الشيء منكرا يحصـل بكونـه مخالفا لكتاب الله سبحانه وتعالى ، أو لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو لإجماع المسلمين» [17] .
12 - كما أن التعبد إنما يكون بترك ما نهى عنه الشرع أو فعل ما طلبه، ولا يكون التعبد بالخلاف بأي حال، وإنما ذلك من عمل الذين يريدون الدين بالتشهي، وهو المسمى بالهوى شرعا، كما قال ابن عبد البر : «الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله» [18] . [ ص: 91 ]