- التقنيات الواقية من الحمل.. تهميش لكرامة المرأة
استنادا على ما ذكر آنفا نستطيع القول: بأن تهميش كرامة المرأة باستخدام التقنيات أو بدونها هـو تهميش مقصود لقضية الإنسان بصورة عامة؛ وقد خرجت التوصيات في يونيو 2000م ومن خلال الدورة الخاصة للجمعية العامة المختصة بمتابعة توصيات المؤتمر العالمي الرابع للمرأة الذي عقد في بكين عام 1995م، بأهمية إطلاق الحريات الجنسية لنساء العالم استنادا على التقنيات الواقية من الحمل! بل دعت الورقة الأميركية المقدمة لتلك الدورة، في هـيئة اقتراح، إلى إباحة الإجهاض مع تعليم المرأة تقنيات التخلص من الجنين إذا كانت لا تريده! إن السماح للنساء بالتحرر الجنسي وممارسة الجنس بالصورة التي تراها ومع من تشاء تدل على مدى الاعتماد على تقنيات التقدم الحضاري لوسائل منع الحمل، تلك التي باتت متنوعة ومتوفرة!
كذلك فإن (مؤتمر الإنسان والثقافة في استكهولم عام 1998م) قد ساهم في مسائل التشكيك في الأدوار الجنسية والأسرية لكل من الرجل والمرأة، وفي المفهوم التقليدي للأسرة، وفي اعتبار الأسرة كوحدة أساسية للمجتمع؛ إن هـذا التحلل كفيل بتحطيم الحياة العامة والخاصة للفرد وللمجتمع على حد سواء. وفي تناقض واضح أعلنت وزارة الخارجية [ ص: 133 ] الأميركية بأن الولايات المتحدة قد لا تساهم في برنامج حول الجنس تنظمه المنظمة العالمية للصحة؛ لأن هـذا البرنامج يتضمن بحوثا حول الأقراص المجهضة (ار.يو-486) .
وقد فطـنت بعض النسـوة الرائـدات إلى «أكذوبة» تحرير المـرأة، وأنها أطلقت ثورة ضد المرأة وليس لها، وأنها تدمـير للأنوثة لا لرعـايتها، كما أدركت أنها قد شجعت المرأة على استخدام بعض التقنيات كي تتحول إلى سلعة رخيصة فيما ظنت أنها تبعث الحياة في وجودها. لقد ألغت ثورة تحرير المرأة وضع المرأة الأم والزوجة والابنة التقليدي، كما ألغت أيضا وضع المرأة كامرأة ومخلوق جميل وكائن بشري؛ كذلك فإن كثرة الحقـوق التي تطالب بها المرأة قد أضاعت معنى الوجود وهدفه وطبيعته؛ بل إن سهولة استخدام التقنية قد حولت الحياة الأسرية إلى وحش متلهف لابتلاع كافة السلع. ومن جهة أخرى فإنه يمكن تقدير العمل المنـزلي الذي تقدمه المرأة والذي يمكن تقييمه اقتصاديا بل ويمكن إدخاله في حسابات الناتج المحلي لأي دولة، وإذا ما جرى التسليم بذلك فإن ميزان المساواة بين الرجل والمرأة سوف يختلف وسوف يتضح أن مساهمة المرأة في الاقتصاد ليست أقل من مساهمة الرجل [1] .
وفي مثال واضح، أشار استطلاع، نشر حديثا، إلى أن معظم النساء اليابانيات العازبات يفضلن عدم الزواج، ويعتقدن أن بوسعهن العيش سعيدات بمفردهن بقية حياتهن! وقالت نحو سبع من بين كل عشر نساء عازبات، استطلعت صحيفة «يوميوري» اليومية المحافظة آراءهن: بأنهن [ ص: 134 ] يفضلن البقاء بلا زواج! كما أوضحت الصحيفة أن «هذه النتيجة تعكس اتجاها حديثا بين العازبات اللائي لم يعدن يربطن بين نظرة المجتمع واختيار العيش بمفردهن»، كما أن 74% من الرجال والنساء، الذين شملهم الاستطلاع والذين هـم في العشرينيات من أعمارهم، قالوا: إنهم يعتقدون أن المرأة ستكون أسعد بلا زواج! وتحاول الحكومة اليابانية وقف تراجع معدل المواليد، والحفاظ على عدد السكان من الانكماش، بسبب الصعوبات التي يتضمنها عمل السيدات في ضوء ساعات العمل الطويلة. وما لم يتم اتخاذ خطوات فإن نقص الأطفال سيسبب مشكلات لليابان من بينها الإضرار بالنمو الاقتصادي وزيادة تكاليف الرعاية الاجتماعية للأفراد وحتى مشكلات نفسية من جانب الشبان غير القادرين على التكيف مع المجتمع.
- التأثيرات السلبية للتقنيات على كينونة الأنوثة؟
إن من أسوأ الكوارث التي حلت بالمرأة في عصرنا الحديث هـو إبعادها عن نصفها الآخر، وذلك بالتلاعب بالأنوثة، مما أدى إلى ظهور ما يسمى بـ: «الجنس الثالث» وهم الضحايا الأكثر وضوحا للتقنيات المعاصرة. وربما الأخطر من ذلك كله ظهور التأثيرات السلبية للتقنيات التي سهلت عمل المرأة ودمرت كينونة الأنوثة مما شكل تداخلا في الأدوار، التي كانت محددة سابقا لكل من الرجـل والمرأة حسب طبيعة كل منهما.
الكاتبة البريطانية «جيرمين جرير» تعتبر من أبرز كاتبات تحرير المرأة، خاصة فيما يتعلق بالأمـور الجنسية، وقد ظهر ذلك في كتابها «المرأة [ ص: 135 ] الكاملة» «The Whole Woman»، أما كتابها الأخير «Female Eunuch» «الإخصاء النسائي» فقد ناقض الكثير من مفاهيم كتابها الأول، بل وأصبحت الكاتبة تعتقد أن الخروج المكثف للمرأة إلى سوق العمل لم يكن في صالح المرأة أبدا. وسوف يتأزم الوضع في المستقبل؛ لأن ممارسة الجنس سوف تتم عبر تقنيات الجنس المرئية منها والمطبوعة وغيرها من الأشكال الإباحية التي تعزز من الاتجاه نحو الأنوثة المتخيلة لتحل محل المرأة كجسد. وهي تقنيات قد يفضلها بعض الرجال؛ لأنها لا تحملهم المسئولية المنـزلية والأبوية، وفي ذلك أكبر كارثة تواجهها النساء اليوم. كما أن المرأة اليوم تعتبر الخاسر الأكبر في قضايا الشذوذ الجنسي، سواء كان ذلك بين رجلين أو امرأتين، وذلك لأن هـذا الوضع يحرمها من الإنجاب الذي هـو مسألة فطرية في حياة أي امرأة.
كما ناقشت المؤلفة مسألة التفاوض الجنسي التقني، وتعني بها حلول الأشكال الإباحية، ومنها الأنوثة المتخيلة والدمية محل المرأة كجسد، وبالرغم من كون ذلك أصبح ميسـورا للمرأة كما هـو للرجل، إلا أن في ذلك خسارة كبيرة للمرأة التي تحتاج بالفعل لإقامة علاقة سوية طبيعية مع الرجل.
كذلك تنتشـر في الغرب ظـاهرة الأسر وحيدة العـائل المكونة من أم وأطفال دون آباء أو بالعكس، وقد أعطت الكاتبة البريطانية «جيرمين جرير» أرقاما خطيرة بهذا الشأن، حيث وصلت في عام 1992م إلى أسرة من بين كل خمسة أسر في بريطانيا وشكلت الأمهات 91% من هـذه [ ص: 136 ] الأسر، هـذا إلى جانب أن واحدا من كل ثلاثة مواليد هـو ابن لعلاقة غير شرعية. وبالرغم من ارتفاع نسب المعيشـة إلا أن واحدا من كل أربعة أطفال ينشأ في حالة فقر مدقع.
كما تعرضت الكاتبة البريطانية «جرمين جرير» إلى تهرب الآباء من المسئولية الجينية، حيث لا يوجد قانون في بريطانيا يجبر الأب على توقيع شهادة ميلاد الطفل الذي ولد نتيجة استخدام سائله المنوي. ويشبه ذلك عدم تحمل المسئولية عندما يتصل الرجل بالمرأة دون استخدام تقنيات منع الحمل ثم يدعي بأنه لم تكن لديه النية في أن يصبح أبا! هـكذا يظهر بوضوح أن التقنيات الحديثة لا تساعد المرأة على تحقيق الأسرة الكاملة بل إن بعض النساء العاملات يقمن بالعمل وبتربية الأطفال (بتسهيلات من وسائل التقنيات الحديثة) دون مساعدة الآباء المالية أو المعنوية بالرغم من وجودهم الفعلي. وربما تلام المرأة في ذلك حين طالبت بالمساواة والعمل خارج المنـزل وانتهزها الرجل كفرصة سانحة للتخلي عن مسئولياته تجاهها وتجاه أبنائه منها. وبدلا من أن تضع النساء المتعلمات مصلحة النشء والأسرة وضعن المطالبة بالحرية أولا! تلك التي انقلبت وبالا عليهن وعلى أطفالهن؛ وبدل أن يتم إصلاح الأحوال ومقاومة المظالم قامت الحرب بين الجنسين، وعندما تعمل المرأة ويعاني الرجل من البطالة يختـل ميزان الأسرة، فالرجل لا يملك مقومات العناية بالأطفال رغم وجود التقنيات، وهكذا تنقلب الأدوار وتعاني النساء والأطفال معاناة جديدة. [ ص: 137 ] والجدير بالذكر أنه مع بداية القرن فإن المرأة ستمثل أكثر من نصف القوى العاملة في معظم الدول، وذلك بعد أن دعمت حقوقها في أكثر من 130 دولة في العالم، وسوف تثبت الأيام بأن بعض الحقوق نكالا ووبالا على تلك الدول. وعلى سبيل المثال أظهرت آخر إحصائية في مملكة البحرين (تصنف من دول العالم الثالث) بأن 70% من القوى العاملة في الوزارات ومؤسسات الدولة هـي من النساء! بينما يتعرض الرجال للبطالة التي رفعت بالمقابل من معدل الجرائم واللجوء للخمر والمخدرات.
وفي المجتمع الأمريكي أطـلقت الكاتبة «بيتي فريدان» على العـلاقة بين رجل وامرأة اليوم مصطلح (سياسة الكراهية) وبعد أن كانت من الناشطات في طلب التحرر والمساواة، إلا أنها في كتابها الجديد «BEYOND GENDER» (الذي نشر عام 1998م) قد ركزت على تحول الحركة النسوية إلى حركة مغايرة للمصلحة العامة، وأكدت بأن النسوية قد دمرت الجماعة الوطنية؛ وعليه فهي تنادي برؤية جديدة في دعم الأسرة واسترداد المجتمع المتماسك المتراحم الذي تمثله ربة المنـزل المتفرغة لتربية أطفالها والعناية بأقاربها دون الاعتمـاد الكلي على التقنيات الضارة أو على الخدم والمربيات؛ في المقابل تضل بعض النساء الطريق القويم ويسرن بآلية دفع الأنانية ويرفضن المراجعة والتقويم وينظرن لربات المنازل وللتراحم وصلة ذوي القربى نظرة رجعية [2] . [ ص: 138 ]
ماذا صنعت التقنيات من امرأة القرن الواحد والعشرين؟
امرأة القرن الواحد العشرين لم تعد فقط مخترعة أو مفكرة أو كاتبة كبرى؛ بل لم يعد لها الوجه البارز في السباق نحو العبقرية الذي كانت تخوض غمارها بضراوة في أوائل القرن المنصرم، ولكنها أصبحت أكثر شهرة كعارضة أزياء أو لاعبة تنس أو ممثلة أو راقصة لها ثمن مثل الساعة أو السوار! ولم تعد الكثيرات منهن يشغلن وقتهن كثيرا في بناء المجتمع أو تأسيس الجمعيات الخيرية بل أصبحن سلعة وتقنية متقدمة في مجتمع استهلاكي متكالب على التقنيات الحديثة. ومن الملاحظ أنه بعد دخول المرأة إلى جميع الحقول، لكي تنافس الرجل، اضطرت للخروج من حقلها الأساسي في تربية الأطفال وتركت ذلك للخدم ورياض الأطفال وللتقنيات الحديثة. وفجأة اكتشفت المرأة أن الحرية الاقتصادية والتقنيات الحديثة التي كانت تعتقد أنها حاميتها هـي التي أخذت منها الطمأنينة والأمان ربما إلى غير عودة، والرجل الذي تظن أنه أعطاها الحرية إنما أخذ هـذه الحرية ليحرر نفسه من الالتزامات الاجتماعية التي كانت تشكل السقف الطبيعي في التعايش بين كائنين يتشاركان في نعمة الحياة. مما هـو جدير بالبحث ما أشار له مؤتمر بكين (1995م) ؛ ثم مؤتمر نيويورك (1997م) ، من اعتبار المرأة مخلوقا من الدرجة الثانية؛ لأنها وبدرجات مختلفة في العالم كله تأتي خلف الرجل بمسافة كبيرة في الثروة والتملك واحتلال المناصب والاشتغال بالسياسة والإدارة [3] . [ ص: 139 ] ومن القضايا المهمة التي أوردها تقرير مؤتمر الدوحة (نوفمبر 2004م) أنه برغم كثافة التقنيات وتنوعها لكن المرأة اليوم أصبحت أقل إنجابا من المرأة في الماضي، فقد نقص عدد أفراد الأسرة إلى النصف، مما يشكل خطرا عليها وعلى تعداد السكان [4] .
كذلك أثرت تقنيات العصر الحديث على الكثير من شئون العلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة، حيث دخلت العولمة في صميم العلاقات الأسرية. وقد ظلت قضية الأسرة لعصور طويلة قضية خاصة، يديرها اثنان: رجل وامرأة، بينهما تراث اجتماعي وديني، الرجل هـو الزوج والأب والابن والعم والخال أو غير ذلك من مستويات القرابة، وفي جميع الحالات يجب أن تتم صياغة العلاقة دون حديث عن العنف ضد المرأة. اليوم تطالب العولمة بمفهوم جديد للأسرة ألا وهو: الأسرة هـي أي وحدة يظللها سقف واحد بصرف النظر عن تعاليم الأديان في الزواج أو الطلاق، إنها إرادة اثنين بينهما إيجاب وقبول، قد يتوافر لهمـا الشهود أو لا يتوافرون، وقـد يوثقـان الزواج أو لا يوثقانه، تستوي في ذلك أن تكون العلاقة بين رجل وامرأة أو بين رجلين أو امرأتين!! وهذا المفهوم الشاذ ينتشر في الغرب انتشار النار في الهشيم، ومنه يمتد إلى الشرق. وعلى سبيل المثال وفي آخر الإحصاءات الرسمية لعام 2000م في دولة كندا ، اتضح أن الزواج غير الرسمي تفوق [ ص: 140 ] نسبته الزواج الرسمي! وتطالب العولمة كذلك بمفهوم جديد ثالث للحرية، فالحرية عندهم تساوي الإباحية! ولا شك في أن التقنيات الحديثة تسهل الوصول إلى ذلك. القرن العشرين كان مسخرا لتمكين المرأة من المشاركة في تصميم التقنيات الحديثة، بل إن ظهور المرأة بكثافة في لعبة التقنية إنما هـي واحدة من أبرز التطورات في هـذا العصر، إذ لم يسبق لهذا العدد الكبير من النساء أن تولى هـذا القدر العظيم من السلطات ومنها ما هـو من أعلى مستويات المسئولية [5] .
وفي نظرة سريعة للوضع الحالي نجد أن امرأة الأمس كانت ربة بيت تعتمد على نشاطها في رعاية بيتها وتربية أطفالها مما يوفر لها الصحة الطبيعية الفطرية، وكان الرجل هـو من يحافظ على مفاهيم الرعاية المادية والنفسية. أما اليوم فقد اختارت المرأة طرق التقنيات السهلة، وشجعها الرجل على ذلك ظنا منه أنها الرفاهية، لكنها تحمل في طياتها الخراب والدمار. ولم يبق إلا أن تراجع معظم النساء ضمائرهن ليعدن في ثياب العزة والكرامة إلى تربية أولادهن بأقل قدر من التقنيات الممكنة، ولن يكون ذلك إلا بقناعتهن وبتشجيع من الرجال أيضا. ولا شك في أن الصدام الأكيد سوف يستمر حول مفاهيم وتقنيات غربية المنبت أثبتت ضررها في دولها ولن تصلح للتطبيق في بقية دول العالم [6] . [ ص: 141 ]