- آل البيت والغيب
وإذا ثبـت أن النبـي صلى الله عليه وسلم لا يعـلم من الغيـب إلا ما علمـه الله، مما أكثره يتعـلق بالوحـي وإبلاغ الرسالة، فهل ورث شيئا منه لأصحابه وآل بيته؟
الحقيقة أن دعوى معرفة الغيوب أو الاستئثار بأسرار الوجود لا يكاد يخلو منها قوم ولا زمان، بل هـذا كما يقول ابن تيمية : «كثير ملأ العالم، تجد كل قوم يدعون من الاختصاص بالأسرار والحقـائق ما لا يدعي المرسـلون، وأن ذلك عنـد خواصهم، وأن ذلك لا ينبغـي أن يقابل إلا بالتسليم، ويحتجون لذلك بأحاديث موضوعة» [1] .
وآل البيت هـم أكثر من نسب إليه في الإسـلام الاطلاع على الغيوب والإخبار بالمستقبلات. نسبوا إلى علي رضي الله عنه : صحيفة الوصي، ونهج البلاغة بتمامه، ووصية النبي له. ونسبوا لجعفر الصادق رحمه الله: كتـاب الجفـر، وكتاب الهفـت، وكتاب الجـدول، وكتاب البطاقة... وغيرها [2] . [ ص: 49 ] وأشهر كتب التنبؤات المستقبلية المنسوبة إلى آل البيت هـو كتاب الجفر، وهو لغة: جلد الماعز، قالوا: إن عليا -أو جعفر الصادق - كتب فيه أخبار ما سيقع إلى قيام الساعة [3] . ونسبوا أيضا إلى آل البيت القول بالتنجيم والاستدلال على الوقائع المستقبلية بالحركات الفلكية [4] .
- الكذب على آل البيت:
والقاعدة التي يعرفها أهل الحديث وثبتت عندهم بالتجربة وبالاستقراء الواسـع أنه ما كذب على أحد كما كذب على أهل بيت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، يقول ابن القيم : «الكذابون كثيرا ما ينفقون سلعهم الباطلة بنسبتها إلى علي وأهل البيت؛ كأصحاب القرعة والجفر والبطاقة والهفت والكميان والملاحم وغيرها، فلا يدري ما كذب على أهل البيت إلا الله سبحانه» [5] . وخصوصا عن رجلين صالحين: علي بن أبي طالب وجعفر بن محمد .
- بطلان ادعاء معرفة المستقبل:
وادعاء معرفة آل البيت للغيوب ادعاء باطل، فإن الله سبحانه يقول:
( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ) (آل عمران:179) . قال النسفي : أي «لا تتوهموا عند إخبار الرسول بنفاق [ ص: 50 ] الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب... ولكن الله يرسل الرسول فيوحي إليه ويخبره بأن في الغيب كذا.. والآية حجة على الباطنية فإنهم يدعون ذلك العلم لإمامهم، فإن لم يثبتوا النبوة له صاروا مخالفين للنص؛ حيث أثبتوا علم الغيب لغير الرسول، وإن أثبتوا النبوة له صاروا مخالفين لنص آخر،
وهو قوله: ( وخاتم النبيين ) (الأحزاب:40)
[6] .
ومن نسب -عن حسن نية- كتب الغيبيات والتنجيم والفلك إلى جعفر رحمه الله، ربمـا اختلط عليه بآخر يسـمى أيضا: جعفر بن محمد، وهو البلخي المشهور بأبي معشر الفـلكي، كتب كثيرا في هـذه الأمور وكان يتنبأ، وقد توفى سنة 272 هـ. قال ابن كثير : «الظاهر أن الذي نسب إلى جعفر بن محمد الصادق من علم الرجز والطرف واختلاج الأعضاء إنما هـو منسوب إلى جعـفر بن أبي معشر هـذا، وليس بالصادق، وإنما يغلطون، والله أعلم» [7] .
- حديث علي في نفيه الاختصاص بعلم المستقبل:
روى البخاري [ ص: 51 ] " عن أبي جحيفة قال قلت لعلي بن أبي طالب : «هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هـذه الصحيفة، قال: قلت: فما في هـذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر.» " " وفي طريق آخر: قلت لعـلي : هـل عندكم شيء من الوحـي إلا مـا في كتاب الله؟ قال: لا، والذي فـلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هـذه الصحيفة " ...إلخ. [8] .
وأبو جحيفة من صغـار الصحـابة، اسمه: وهب بن عبد الله السوائي ، له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم . وكان عـلي رضي الله عنه يحبـه ويثق بـه، وجعله على بيت المـال بالكوفة [9] . وذكر ابن حجر أن الإسناد كله كوفيون إلا شيخ البخاري، وقد دخل الكوفة [10] . فالحديث إذن يرويه أصحاب علي.
قال الشراح: قوله «هل عندكم» الخطاب لعلي رضي الله عنه ، والجمع للتعظيم، أو لإرادته مع سـائر أهل البيت. وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة كانوا يزعمون أنه عليه الصلاة والسلام خص أهل بيته -لا سيما علي بن أبي طالب - بأسرار من الوحي لم يذكرها لغيره. وقوله: " «أو فهم أعطيه رجل» " ؛ أي: ما يفهمه الرجل من فحوى الكلام ويدرك من بواطـن المعـاني في النص؛ كوجوه الأقيسـة والمفاهيـم وسـائر الاستنباطـات، كما جـاء في رواية البخاري في الديات بلفظ: [ ص: 52 ] " ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهمـا يعطى رجل في الكتاب " [11] . ونقل الكرماني عن البيضاوي قوله: «معنى كلامه رضي الله عنه : أنه ليس عنده شيء سوى القرآن، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يخص بالتبليغ والإرشـاد قوما دون قـوم، وإنما وقع التفاوت من قبل الفهم واستعداد الاستنباط، واستثنى ما في الصحيفة احتياطا؛ لاحتمال أن يكون فيها ما لا يكون عند غيره فيكون منفردا بالعلم بـه» [12] .
- في جواز معرفة غيوب جزئية:
وقد اعترض الشوكاني على هـذا، وقال: «لا يلزم منه نفي ما ينسب إلى علي من علم الجفر ونحوه، أو يقال: هـو مندرج تحت قوله: " إلا فهما يعطيه الله تعالى رجلا في القرآن " . فإنه ينسب إلى كثير ممن فتح الله عليه بأنواع العلوم أنه يستنبط ذلك من القرآن. " ومما يدل على اختصاص علي بشيء من الأسرار دون غيره حديث المخدج المقتول من الخوارج يوم النهروان ، كما في صحيح مسلم وسنن أبي داود، فإنه قال يومئذ: التمسوا فيهم المخدج؛ يعني في القتلى. فلم يجدوه، فقام الإمام علي بنفسه حتى أتى أناسا قد قتل بعضهم على بعض، فقال: أخرجوهم. فوجدوه مما يلي الأرض [ ص: 53 ] فكبر، وقال: صدق الله وبلغ رسوله. فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين، والله الذي لا إله إلا هـو لقد سمعت هـذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: إي والله الذي لا إله إلا هـو. حتى استحلفه ثلاثا وهو يحلف. والمخدج المذكور هـو ذو الثدية» " [13] .
وجوابي عن هـذا الاعتراض أنه يجب التفريق بين أمرين:
1 - إثبات نسبة علم الغيوب التفصيلية أو علم خاص قائم بنفسه إلى أحد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى بعض صحابته.
2 - اختصاص بعض الصحابة ببعض المعارف أو ببعض الإخبارات الغيبية الجزئية.
فالأمر الأول باطـل لا يصح بنصـوص القرآن والسنة الصحيحة، وهو الذي أنكره علي رضي الله عنه . والأمر الثـاني ممكن، بل واقع، ولا خـطر فيه، كما سيأتي. لكن بعضهم لم يتكلموا في هـذا، وإنما أثبتوا الأمر الأول. ولا مانع من إخبـار النبي عليا بأشياء تقع له، كما بشر عثمان بالجنة وقـال: على بلية تصيبه . وكمـا كان عمر يعـرف أمـورا من الفتن ونحوها.
" وقد قال أبو هـريرة : حفظت من رسول الله وعاءين؛ فأما أحدهما فبثثته. وأما الآخر فلو بثثته قطع هـذا البلعوم " [14] . [ ص: 54 ] فرأى بعض العلماء أن المراد بالوعاء الثاني ما كتمه من أشراط الساعة وتغير الأحوال والملاحم في آخر الزمان، فربما أنكر ذلك من لم يألفه [15] . وقال ابن حجر : «حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم...» [16] .
واشتهر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بمعرفة كثير من أخبار الغيب والفتن، واختص ببعضها؛ كأسماء المنافقين، حتى كان يسمى: «صاحب سر رسـول الله». وكان عمر -على علمه وقدره- كثيرا ما يسأله عن بعض ما عنده من الحوادث الآتية [17] .
فالنبـي الكريـم عليه الصلاة والسلام كان أحيانا يخبر أصحابه عن أمور سيرونـها أو تحدث لهم، فهي إخبارات جزئية من باب المبشرات والمنـذرات. وأين هـذا مـما يدعيه الكذابون -وما أكثرهم في كل عصر- من نسبة كتب كاملة إلى علي وآل بيته فيها تفاصيـل [ ص: 55 ] ما كان وسيكون إلى قيام الساعة، وكذا نسبة كتاب الملاحم لحذيفة. وهل نـهدم العقيدة القرآنية الحاسمة في استئثار الله تعالى بالغيب ونتعلق بأوهام الدجالين؟