ثانيا: نفي الاستكبار:
أشارت سورة العنكبوت إلى صفتين أساسيتين في السلوك الإنساني، الأولى هي الاستكبار والعلو، والصفة الثانية هي على النقيض من ذلك تتمثل بضعف الإنسان وصغر شأنه إلى جنب أمر الله تعالى وسطوته وجبروته.
جاءت الإشارة إلى الاستكبار في قول الله جل شأنه: ( وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض ) (الآية:39)، فما كان من هؤلاء إلا أن تكبروا وعلوا وارتفعوا على الحق [1] . ترفعوا عن الإيمان والطاعة في الأرض، وفي ذلك إشارة إلى قلة عقولهم [2] .
والاستكبار هو الأنفة عن الشيء [3] . والاستكبار والكبر والتكبر متقاربة، فالكبر إعجاب المرء بنفسه، بأن يراها أكبر من غيرها، وأعظم التكبر هو التكبر على الله، بالامتناع عن قبول الحق والإذعان له بالعبادة[4] . أي أن الاستكبار هو الترفع عن قبول الحق، ورفض الانقياد له، لدواعي سنأتي عليها، فالمستكبر يصد عن الحق، ويبلغ به صدوده محاربة الحق والتصدي له ومنع إقامته، وفي السياق القرآني نجد أن الاستكبار جاء على الدوام في مواجهة الأنبياء والرسل ومنع دعوتهم والتصدي لها، وما ذلك إلا لقصور عقول هؤلاء عن إدراك الحق، أو معاندة، أي يدركون الحق ولكنهم لا يتبعونه لمصلحة تهمهم تقتضي ذلك منهم. [ ص: 161 ]
ومـن هـنـا نرى أن الاستكبار لا يأتي من المستضعفـين، بل يأتي ممن تعـزز بشـيء من عوامل القـوة من مال أو جاه أو منصب أو رئاسة [5] . ولو تبصرنا بهذه العوامل نجدها من المتغيرات القابلة للانقلاب إلى نقيضها، فينقلب الغـنى إلى الفقر، والجـاه إلى زوال، والمـلك والرئاسة إلى سقوط، ومن ثم فـإن من يتشبث بهذه العوامل كمن يتمسك برمال متحركة، بل إن هؤلاء كالعنـكبوت في بيتها، فمن تولى غير الله جل شأنه فأمره إلى هباء كبيت العنكبوت.
إن التنديد بالاستكبار يضمر دعوة الإنسان إلى التواضع، وإدراك حجمه الحقيقي بالقياس إلى هذا الكون الرحيب، فكيف إذا كان ذلك بالقياس إلى الله عظم شأنه خالق الكون والقائم عليه، فالتواضع مدعاة لقبول الحق والإذعان له وعدم معاندته والتصدي له.
ثم أشارت سورة العنكبوت إلى جانب مما يدلل على ضعف الإنسان وعجزه: ( أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ) (الآية:4)، قال المفسرون: إن هؤلاء لم يعجزوا الله ولن يفوتوه طلبا، فهو قادر عليهم متمكن منهم، ولن يفلتوا من أمره [6] . وجاء اعتقاد هـؤلاء بأنهم قد أفلـتوا من عقاب الله، لأن الله تعالى أمهلهم إلى يوم الحساب، فتوهـمـوا أنهم أفـلتـوا من العقاب وظنوا أنهم قـد باتوا في مأمن من الله جل شأنه [7] .
[ ص: 162 ] وجاء المعنى نفسه في قوله سبحانه وتعالى: ( وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ) (الآية:39)، فما هؤلاء - بما معهم من مال وجاه وسلطان - بالذين يفوتون الله فلا يقدر عليهم، بل إن الله تعالى قادر عليهم، لا يفلتون منه [8] . فالإنسان يتقلب في ملكوت الله سبحانه، وليس له فيه منفذ يفلته من الله تعالى إن عصاه ولم يذعن لشرعه، فيترتب على كل ذي عقل وبصيرة أن يدرك ذلك فيتواضع لله ولا يتجبر أو يتكبر.
وإلى هذا المعنى أشارت سورة العنكبوت أيضا بقول الله سبحانه: ( وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) (الآية:22)؛ والمعجز هو الهارب، السابق، الذي لا يتمكن ملاحقه من إدراكه والقبض عليه وإنزال العذاب به [9] . ولقد تباينت أقوال المفسرين في من هو المخاطب في هذه الآية، فقال بعضهم: إنه يعني أهل الأرض في الأرض وأهل السماء في السماء، فكل منهما لا يعجز الله هربا [10] . وقـال آخرون: المراد منـه أهـل الأرض، فإنـهم لن يعـجـزوا الله هربا في الأرض [ ص: 163 ] ولا في السماء [11] . وسواء أكان هذا المعنى أم ذاك، فإن مقتضى الأمر أن الإنسان ذلك المخلوق إنما هو في غاية الضعف إزاء سطوة الله وجبروته، ليس له ما يدفعه - حقيقة - لكي يشعر بالخيلاء والاستكبار والعلو.
كما تتضمن الآية إنذارا للمخاطبين على أنهم لا يملكون سبيلا للنجاة مـن سطـوة الله، فهو محيط بـهم، قـادر عليهم، ليس لـهـم من دونه مـن ولي ولا نصير [12] . وليس لكم أيها الناس من قوة تمتنعون بها من سطوة الله عز وجل [13] . لذا فإن تواضع الإنسان، واستشعاره لحجمه الحقيقي في نظام الكون الشامل، ومعرفته الحقة العميقة بربه، كل ذلك يضعه في السياق الصحيح لحركة الحياة وحركة الكون، فقد خلقه الله تعالى لغاية، وأراده لأمر، وما عليه سوى إدراك ذلك وأداء دوره الشرعي في رسم ملامح الحياة على هذا الكوكب، مستمدا منهجه من شريعة الله تعالى، التي تكفلت ببيان المنهج اللازم للاستخلاف والإعمار في الأرض: وبديلا عن الاستكبار والترفع على الله تعالى وشريعته، يتوجب عليه إدراك حقيقة عبوديته التامة لله عز وجل، التي توجب عليه الانصياع، انصياع العبد لسيده لا غير. [ ص: 164 ]