الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          رابعا: قيم في العلاقات الاجتماعية:

          وضعت سورة العنكبوت أساسا للعلاقات الاجتماعية عبر عتبة بر الوالدين، فجاء فيها: ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) (الآية:8)، ونزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أعلن إسلامه حلفت أمه ألا تأكل طعاما، ولا تشرب شرابا، ولا تدخل كنا، حتى يرجع سعد عن الإسلام، فجعل سعد يترضاها، فأبت عليه، وكان بها بارا، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يترضاها، فأبت عليه، لكنها في الأخير انصاعت للأمر الواقع لما وجدت ثبات ابنها على دينه الجديد [1] .

          والإحسان في قول الله عز وجل الوارد آنفا فهو فعل ما هو حسن بقصد وعناية، والحسن هو الفعل الجميل، وإن كان بغير قصد وعناية، فالإحسان أبلغ من الحسن، فالأخير يناسب الوالدين إن لم يكونا مؤمنين، في حين يكون الإحسان للوالدين المؤمنين [2] .. والحسن بعامة هو الاسم العام الجامع لجميع معاني الحسن [3] .. ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا البر بالوالدين في بضعة مناسبات أخرى منها: [ ص: 172 ] ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ) (لقمان:14-15)، ثم قوله سبحانه: ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ) (الإسراء:23)، ثم قوله عز وجل: ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) (النساء:36).

          إن من أبلغ ما جاء في هذه الآيات ذلك الاقتران المباشر بين عبادة الله وتوحيده وعدم الإشراك به مع البر بالوالدين، سواء أكانا مسلمين أم مشركين، فهذا الاقتران وهذا التكرار ليدلل على عظم هذه الفضيلة، وأنها أساس مهم جدا لبناء العلاقات الاجتماعية بعامة. فإنه من عق والديه ولم يبرهما لا يمكن أن يرجى منه - بأي حال - أن يكون صالحا في المجتمع، فمن خذل أقرب الناس إليه، وهما كانا سبب وجوده أصلا في هذه الحياة الدنيا، من حيث الفعل المباشر، كيف يحسن إلى غيرهما من الناس العاديين، بل كيف سيكون إيجابيا صالحا مع خصومه؟! والحياة لا تخلو من خصومة.

          وعليه، فإن مفتاح الإيجابية في العلاقات الاجتماعية هو بر الوالدين. [ ص: 173 ]

          ومما جاء في سنة النبي في هذا الشأن قوله: ( ألا أخبركم بأكبر الكبائر"؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ) [4] ، وسأل أحد الصحابة النبي : ( أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها قلت: ثم أي؟ قال: "ثم بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله ) [5] .

          وهنا أيضا يتكرر ذلك الاقتران بين توحيد الله سبحانه وبر الوالدين.. ( سأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل من بني سلمة قال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما - أي الدعاء لهما - والاسـتــغفار لهـما، وإنفـاذ عهـدهما من بعـدهما، وصلة الرحم، التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما ) [6] ، ( وعن أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنهما، قالت: قدمت علي أمي، وهي مشركة، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك ) [7] . [ ص: 174 ]

          فهذه المعطيات كلها تشير إلى عظم شأن الوالدين وما يجب لهما من حقوق، وأن عقوقهما صفة أهل الفسوق والعصيان والكفر والجحود، والتنكر للمعروف، فهو ليس من خلق الإسلام، ولا من صفات المسلمين [8] .

          وقبل العودة إلى الآية الخاصة بالموضوع، من سورة العنكبوت، ثمة التفاتة بليغة سمعتها من أحد الأصدقاء ومفادها أن أحد الأشخاص زار صديقا له، فوجد والدته الـمسنة عنده، فسلم عليها ثم قال لصاحبه: أرى والدتك عندك، فاستحيا الابن من عظم فضل الأم، فرد بقوله: لا، أنا عندها، إلا أن الأم الـمسنة استدركت، فقالت: لا، يا بني أنا عندك، ألم تقـرأ قول الله سبحانه: ( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ) (الإسـراء:23)؟ لما كنت صغيرا كنت عندنا، فلما كبرنا صرنا عندك.

          ومما يترتب على هذا استدراك آخر مفاده أن يحذر الأبناء من إبداء أي تذمر تجاه الوالدين الـمسنين، ولا سيما إذا كانا عنده حتى لا يشعرهما بوطأة أمرهما عليه، ولو كان ذلك بأدنى كلام، وإن كان من حرفين، فلا يقل لهما: (أف) ولا يتأفف من أمرهما ولا ما يبدر منهما من طلبات أو ملاحظات وتـعـليـقات واسـتـدراكات، ولا سيـمـا أن الإنـسـان المـسـن يـغـدو لجـوجـا كثير الملاحظات. [ ص: 175 ]

          وبالعودة إلى قول الله سبحانه: ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) (الآية:8) نـجـد أن الآية تتـضمن عدة دلالات مهمة:

          إن حق الله تعالى أعظم الحقوق، فلا يعلو عليه حق، فإن للوالدين حقا - وإن كانا كافرين- مع وجوب طاعتهما، ولكن في غير معصية الله تعالى، لأن طاعتهما إنما تجب فيما فيه منفعة لهما من القيام بأمرهما، من دون معصية الله تعالى [9] . فحق الله عز وجل أعظم من الحقوق كلها، ويدخل في ذلك حق النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو أعظم من حق الوالدين أيضا [10] . لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء بأمر الله جل شأنه؛ فإن طاعة الله ورسوله أعظم نفعا من طاعة الوالدين في معصيتهما، ففي طاعتهما في المعصية فساد أمر الحياة كله، بالنسبة لمن أطاع في المعصية، بل فساد أمره في آخرته أيضا.

          ويتعلق الجانب الثاني من الآية ببر الوالدين، حتى وإن كانا كافرين، من حيث القيام بشأنهما، قولا وعملا؛ فيقوم بخدمتهما، وأن لا يرفع عليهما صوتا، ولا يخشن في الكلام معهما، ويسعى في إنفاذ حاجاتهما والإنفاق [ ص: 176 ] عليهما بما هو ميسور متاح عنده ولا يبخل عليهما [11] . فهما سبب وجوده، ولهمـا كبير الفـضـل عليه؛ والده بـما أنـفـق عـليـه، ووالـدتـه بـمـا أشـفـقـت عليه في تربيته وإعداده [12] .

          فإذا كان الحال كذلك مع أبوين كافرين، فإن حقهما يكون أعظم من ذلك إن كانا مؤمنين، إذ يكون حقهما من ثلاثة وجوه: أنـهما سبب وجوده في هذه الدنيا، ولقد ربياه وأحسنا إليه، فلا بد من أن يكون جزاؤهما بما يوافي ذلك ويزيد؛ ثم إنهما سبب كونه مسـلما - طبعا هذا في غالب الأحوال - فلو كان الوالدان كافرين لغلب على الابن أن ينشأ كافرا، والعياذ بالله، فليس للابن أن ينسى لهما هذا الحق؛ ومن ناحية ثالثة يجب لهما ما يجب لعامة المسلمين من معاملة المسلم للمسلمين كافة بالإحسان والتعاون والتعاضد وحسن المعاشرة بحسن الخالق.

          أما الجانب الثالث في هذه الآية فيتضمن معرفة حق من أسهم في تربية المرء وإعداده وتعليمه، من معلمين ومشايخ وما إلى ذلك، ولزوم إكرامهم وتبجيلهم؛ لأن الأمر برعاية حق الوالدين إنما جاء لأسباب منها حق التربية والتنشئة [13] ، فإن من أسهم في تربية المرء وإعداده إنما يشارك الوالدين في هذا الجانب، فينبغي له ما ينبغي للوالدين من الإحسان والإكرام بحسن الخلق. [ ص: 177 ]

          وعلى هذا الأساس، تتسع دائرة الفضيلة وحسن الخلق لتعم المجتمع بأسره، حتى تغدو الفضيلة الاجتماعية قاعدة السلوك الأخلاقي للمسلم، فهي فضيلة جماعية أكثر مما هي فضيلة بين فرد وآخر، وهذه هي الخصيصة المميزة للنظام الإسلامي، فالقرآن والسنة والفقه تلح كلها على ضرورة تدعيم الروابط، التي تشد أفراد المجتمع بعضهم إلى بعض وتوثقها [14] .

          فعلى النقيض من تلك الفردية، التي تقود إلى (شريعة الغاب) ينظر الإسلام إلى الإنسان لا على أنه كيان منعزل، بل على أنه جزء من كل أكبر، ألا وهو (الجماعة)، وهذه الجماعة تتجه صوب غايات وأهداف تسمو على غاياتها نفسها، وهذا المنظور الإسلامي إلى الإنسان لا يلتقي بالمفهوم الغربي القائل: إنه لا بديل للمذهب الفردي إلا المذهب الجماعي، وحينما نقول: إن المسلم هو جزء من كل فنحن لا نعني ما ذهب إليه بعض فلاسفة الغرب من تشبيه الإنسان بعضو في جسد متكامل، فاقد لكينونته، ولا نعني ما ذهب إليه المفهوم الفاشي من أنه لا قيمة للفرد، ولا معنى له ولا كيان إلا بانتسابه إلى الدولة، إن هـذه المفـاهـيـم وما يـترتب عليها من علاقات لا يمكن أن توجد إلا في أحضان مجتمع يرى نفسه هدفا قائما بذاته، أي أنه لا يهدف إلا إلى النمو والقوة، أما المجتمع الإسلامي فيسعى إلى أهداف وغايات تسمو على أهدافه الخاصة، ويرسمها الله له.. إن هذا التسامي في العلاقة بين الجماعة [ ص: 178 ] والإنسان وبين الله والجماعة يجنب المجتمع الوقوع في شكليات نظام التسلسل في المناصب، ولا يؤدي إلى اضطهاد الإنسان للإنسان [15] .

          إن هذه المعادلة، التي رسمها "غارودي" إنما تستند إلى مسلمات أساسية جوهرية في التصور الإسلامي، تمتد على النحو الآتي:

          أن الإيمان قول وعمل، فلا يتحقق هذا الإيمان إلا أن تظهر آثاره العملية على الفعل الإنساني.. ولأن الإيمان يزيد وينقص، فإنه إنما يزيد بأعمال الطاعات والبر كلها وليس بالعبادات وحـدها، فمـكارم الأخـلاق كلها هي مما يزيد في الإيمان.. ولأن الإيمان لا يقتصر، من الناحية العملية، على أركانه المعهودة، بل إنها تمتد إلى أكثر من ستين شعبة مما هو عملي سلوكي في حياة الإنسان، يعزز معظمها قيم الفضيلة في التواصل الاجتماعي.

          وهنا أيضا نلمح ذلك التواصل والامتداد والتداخل بين الإيمان والأخلاق والجمال [16] ، فإن القول الحسن، والإحسان، هي مفاهيم جمالية، وهي في الوقت نفسه مفاهيم أخـتلاقية، وهي تقع في دائرة الإيـمان، وهـذا ما يمنح البناء الحـضـاري الإسـلامي خصـوصيته المتـمـثـلة بتواصل الجمال والأخلاق والإيمان في منظومة متكاملة، تعكس قيما لا نجدها متكاملة إلا في إطار التصور الإسلامي. [ ص: 179 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية