الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          خامسا: الصراع بين منهجين:

          لا يمكن لعاقل أن يتوقع أن تمضي الدعوة إلى الحق سلسة يسيرة من دون عقبات أو مشكلات أو ما شابه ذلك، وإن من هذه العقبات مساعي أصحاب المناهج المخالفة وجهودهم لحرف الدعوة عن مسارها بعامة، أو العمل على استدراج أصحاب الحق ومن سار عليه إلى مناهجهم وبدعهم وكفرهم، فالصراع قيمة أساسية مهمة للبناء الحضاري، وهو مناف للخضوع والاستسلام والانقياد، ويعني ضرورة إدراك المخاطر، التي تحف عملية بناء مشروع الأمة واستنهاضها على وفق معطيات الوحي؛ إذ لا يخلو الطريق ممن يسعى إلى قطعه والحيلولة دون أن تأخذ مسيرة البناء اتجاهها الصحيح.

          فقال الله تعالى في سورة العنكبوت: ( وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ) (الآية:12). وكان هذا قول القادة من الكفار لمن آمن بدعوة الإسلام، قالوا لهم: اتركوا دين محمد، واتبعوا ديننا [1] ، ونحن الكفلاء بتحمل كل تبعة من الله قد تصيبكم [2] ، فإذا كان هناك بعث وحساب، ثم حوسبتم على اتباعنا، سنتحمل عنكم آثام خطاياكم [3] . ويتماشى منطقهم هذا مع تصوراتهم القبلية والعشائرية للديات المشتركة، عندما كانت القبيلة تشترك في دية القتيل، الذي يـقتل على يد أحد أفرادها، [ ص: 135 ] فيحسبون أنهم قادرون على احتمال جريرة الشرك بالله عن سواهم وإعفائهم منها، بالطريقة نفسها، فضلا عما يتضمنه قولهم هذا من تهكم على أمر الجزاء في الآخرة إطلاقا [4] .

          وقول الكفار هذا يتضمن دعوة ودعاية، دعوة بقولهم لمن آمن: ( اتبعوا سبيلنا ) واتركوا سبيل محمد ، ودعاية بتزيين الأمر لهم، وإغوائهم، بقولهم: ( ولنحمل خطاياكم ) [5] ، وهم في ذلك كاذبون فـ ( كل امرئ بما كسب رهين ) (الطور:21)، و ( كل نفس بما كسبت رهينة ) (المدثر:38)، فمن صدقهم وتبعهم سيحاسب على ضلاله، ولا أحد يحمل عنه إثمه بتاتا، لكن الذين أضلوهم سيحاسبون على ضلالهم وضلال الذين أضلوهم، لقول الله عز وجل: ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ) (العنكبوت:13)، و ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ) (النحل:25)، وقول النبي : ( من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ) [6] .

          وقد يأتي مثل هذا الضلال، ليس عن الكفار فحسب، بل قد يأتي من أصدقاء السوء، ومن الآباء والأبناء والأهل، من أجل تهوين شأن الدعوة [ ص: 136 ] والاستهانة بها، وتصويرها بالصورة التي تصرف أصحاب الحق عنها إلى غيرها، فإذا حدثهم هؤلاء عن الآخرة، وذكروهم بعذاب الله سبحانه، ردوا عليهم أن لا تخشوا شيئا، سنحمل تبعة ذلك عنكم [7] .

          ونشير هنا إلى حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قال: كنا عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فخط خطا، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط، فقال: "هذا سبيل الله".. ثم تلا هذه الآية: ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) (الأنعام:153)" [8] .

          وهكذا كان الأمر منذ بدأت الدعوة إلى الإسلام خطواتها الأولى، فتعاقب على السعي لحرف أبنائها عن مسارهم ثلاثة أصناف من الدعوات الضالة المضلة وهم: الكفار، ثم أصحاب البدع، ثم أصحاب الأفكار والنظريات الحديثة المنحرفة عن منهج الحق.

          وربما كان شأن الكفار في هذا الميدان أهون الجميع لوضوح أمرهم وكفرهم ووضوح ضلالهم وبطلانهم، وكان المسلمون على أشد ما يكونون من الصلابة، لذا لا نكاد نجد من استجاب لدعوات هؤلاء في ترك الإسلام والانجرار نحو الكفر، مع كل ما استعمله هؤلاء من أساليب البطش والتعذيب، إلا أن ذلك لم يثن أحدا عن الاستمرار في إيمانه بدين الإسلام. [ ص: 137 ]

          فلما يئس الكفار - من مختلف الأصناف من أهل الشرك ومن أهل الكتاب - في تزيين كفرهم للمسلمين، انتهجوا نهجا آخر يتمثل بالتحرك من داخل الإسلام وليس من خارجه، ونشطوا في ذلك أيما نشاط، وكان لدعواهم هذه رواجا عند الغافلين والسذج من غمار الناس؛ فأشاعوا أفكارا بدعية لم يأت بها الإسلام، وليس لها أصل في الدين، بل دعوا إلى أفكار لها أصول في الديانات القديمة، من يهودية ونصرانية ومجوسية وهندوسية وغيرها، وعملوا على زجها في طيات الفكر الإسلامي، ومن هنا ظهرت الفرق والأهواء، ونجحت في تضليل بعض أوساط المسلمين، وقد تأثر بعض أصحاب الفرق بالفلسفات الوثنية أصلا كالفلسفة الإغريقية، وسعوا إلى نقل بعض من أفكارها ومقولاتها إلى المسلمين.

          وإزاء ذلك بذل العلماء من فقهاء ومحدثين جهدا كبيرا في التصدي لهذه البدع والضلالات، وكانت معركة فكرية ضارية دامت عدة قرون من الزمن، تلاشت في أثنائها بعض البدع والضلالات، وما يزال بعضها الآخر قائما في أوساط البسطاء من الناس.

          إلا أن شأن البدع والضلالات هذه كان أهون هو الآخر من الهجمة الأخيرة على الإسلام، التي تمثلت بالغزو الفكري الغربي، الذي استهدف توليد تيارات وأفكار ونظريات وأحزاب تدعو إلى مناهج مخالفة، بل مناقضة تماما للإسلام؛ كالشيوعية والقومية والعلمانية والليبرالية والاشتراكية إلى سوى ذلك من أفكار كالداروينية والوجودية والإلحاد. وكان بعض هذه التيارات مدعومة من أحزاب وحكومات وقوى أجنبية.

          وفي ظل (الإغفاءة) التي شهدها النشاط الدعوي في العصر الحديث نجحت كثير من هذه الأفكار والدعوات في التسلل إلى عقول الرجال والنساء، [ ص: 138 ] ولا سيما من الشباب، حتى تشكلت منهم أفواج، تنتحل الإسلام وتدعو إلى غيره، بل إن من العجائب أن نجد حزبا يحمل اسم (الحزب الشيوعي الإسلامي) إمعانا في تضليل الناس وإغوائهم واستدراجهم، إذ كيف يعقل لفكر إلحادي في أصله أن يدعي أنه إسلاميا!

          من هذه المقدمات يتبين أن الصراع بين المناهج والسبل هو جزء من سنة الاختلاف، التي سنها الله تعالى لخلقه، ومما جاء في ذلك، في كتاب الله العزيز: ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) (البقرة:213)، ( ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) (البقرة:253)، ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ) (يونس:19)، ( وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) (النحل:92)، ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ) ... (هود:118)؛ وعلى هذا الأساس فإن الاختلاف سنة من سنن الله في الأرض.

          إلا أن هذا الاختلاف ينقسم - من الناحية الشرعية - إلى نوعين؛ اختلاف سائغ وآخر غير سائغ؛ فكل اختلاف يستند إلى دليل شرعي من الكتاب والسنة وما يرشدان إليه من إجماع أو قياس فهو اختلاف مشروع، كاختلاف أصحاب المذاهب الأربعة، فاختلافهم مشروع، لاستناد كل منهم إلى ما عنده من أدلة شرعية؛ فإذا لم يستند المخالف إلى دليل شرعي كان خلافه بدعيا غير شرعي، كأن يستند إلى الأهواء والنظريات والأيديولوجيات، التي ليس لها أصل شرعي، فخلاف هؤلاء غير مشروع. [ ص: 139 ]

          إن الاختلاف والصراع بين أصحاب المنهج الشرعي الصحيح والآخرين من أصحاب المناهج غير الشرعية، إنما هو من الابتلاءات، التي ابتلي المسلمون بها؛ ليسـتبين من يتبع الحق منهم ومن يتبع الضـلال، وهذا مصـداق قول الله عز وجل في أول سورة العنكبوت: ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) (الآيتان:2-3).

          هذا الصراع يدور في الحقيقة حول منظومتين من القيم، قيم الإسـلام - الدين الحق - ومنظومة مفاهيمه، ومنهجه في إعمار الأرض على أساس تحكيم شرع الله عز وجل المنزل من لدن عليم حكيم خبير، ومنظومة أخرى من القيم تستند إلى أفكار ونظريات هي الباطل بعينه، تستمد منهجا وضعيا في الإعمار ابتدعه أشخاص وأفراد لم يستندوا إلى شيء من هدى الله عز وجل، بل هو ما قادته إليه أخيلتهم وأهواؤهم وشهواتهم ورغباتهم الدنيوية، منهج ينطلق من عقولهم القاصرة عن إدراك الخير المطلق، والعدل المطلق، والحق المطلق، فكيف يفلحون في إعمار الأرض من دون أن يـفسدوا فيها، بل إن قيمهم هذه تتجه عمدا - في الأصل - إلى مناقضة قيم الإسلام ومحاربتها، وذلك ما يـقود إلى الضـلالة والشـقاء لقول الله جـل شـأنه: ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ) (طه:123)، ومن أعرض عن هدي الله سيتوه في دروب الضلال، وسيكون نصيبه الشقاء في الدنيا وفي الآخرة.

          وربما زين دعاة هذه القيم دعواهم وبهرجوها بالتطور المادي والتقني، الذي يشكل مظهر الحضارة الغربية الحديثة؛ وكأنه هو ذروة ما يطمح إليه [ ص: 140 ] الإنسان على هذا الكوكب، من دون النظر في طبيعة القيم الحاكمة للمجتمع، التي توجه سلوك أفراده وجماعاته، فليس هدف الحياة تحقيق أفضل المكاسب المادية، مع أن الإسلام لا يتجاهل تماما ذلك، بل إن هدف الإسلام يتمثل بالبناء الروحي والقيمي للحياة قبل بنائها المادي؛ إذ الأصل إصلاح سلوك الإنسان ومعتقده قبل إصلاح حياته المادية.

          هنا يأتي مفهوم (التدافع) القرآني ليأخذ مكانه في حماية مسيرة الأمة نحو نهضتها، قال الله تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) (البقرة:251)، ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) (الحج:40)، وقد اتفق جميع المفسرين قديما وحديثا على أن مقصود الآيتين أنه: لولا تصدي أهل الحق لأهل الباطل لفسدت الأرض باستيلاء أهل الباطل عليها بأفكارهم ومناهجهم وفلسفاتهم وقيمهم. ويمكن أن تكون المدافعة بوسائل وأساليب متنوعة، منها: الدعوة، وتعزيز دور المفاهيم الشرعية في الحياة، ومنها التصدي المادي لعدوان أهل الباطل إذا ما اتخذوا الأساليب المادية للتصدي للمشروع الإسلامي لنهضة الأمة وقيمها الحضارية، بما يؤدي إلى دحر أعداء الإسلام وأعداء قيمه، ولتكون العزة لله سبحانه ولتكون كلمته هي العليا.

          ونشـير هنا إلى أن الصراع بين منهج الحق ومنهج الباطل سنة الله في الناس، كما هو الخلاف بينهم سنة من سننه أيضا، وسيدوم هذا الصراع حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وسيكون النصر لأهل الحق على أهل الباطل، ما تمسـكوا بمنهجهم، فإذا زاغوا اسـتبدل الله سـبحانه بهم غيرهم ليـظهر الحـق على الباطل. [ ص: 141 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية