الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          سادسا: الموالاة والتكتل:

          جاء في سورة العنكبوت قول الله عز وجل: ( وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ) (الآية:25)، فجعلوا من أوثانهم وأصنامهم وكفرهم مناسبة يتحابون عليها وعلى عبادتها في حياتهم الدنيا [1] ، فجعلوا إلفتهم واجتماعهم على أصنامهم [2] ، فهم متواصلون فيها، متفقون عليها كما يتفق أصحاب المذهب أو الطريقة [3] . وتناصروا في ذلك وتعاضدوا، وهذا يدل على أن جمع الفسوق لأهل الدنيا هو العادة المستمرة، بينما نجد أن الحب في الله، والاجتماع له عزيز جدا، لما فيه من قطع علائق الدنيا وشهواتها، التي زينت للناس على ما فيها من التباس [4] .

          وهذا هو المنطلق الذي أردنا أن ننطلق منه هنا، وربما كان هذا تعريضا من القرآن الكريم للمؤمنين بقوله لهم: إن كان هذا حال أهل الكفر، فما بال أهل الإيمان؟! ألا ينبغي أن يجتمعوا ويتوافقوا ويتوادوا ويتواصلوا؟!

          وقد صرح القرآن الكريم بذلك في مواضع أخرى، فجاء بشأن جمع غير المؤمنين قول الله سبحانه: [ ص: 142 ] ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ) (التوبة:67)، وقـال جـل شـأنـه: ( وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ) (الجـاثيـة:19)، ثم قال جل جلاله: ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) (الأنفال:73)؛ ويعـود الضمـير في ( تفعلوه ) في هـذه الآية إلى الـولاء، الـذي ينـبـغي أن يكون بين المـؤمـنـين، بعد أن دعاهم إليه [5] .

          لذلك حمل العلماء هذه الآية على ضرورة انعقاد الموالاة بين المؤمنين بالتناصر والتعاضد والتعاون والتماسك والتكتل فيما بينهم، فإن لم يفعلوا ذلك عم الفساد في الأرض، وعليهم أن لا يوالوا الكافرين بأي شكل من أشكال الموالاة [6] . لماذا يكون في ذلك فساد كبير؟ فإن انعدام الموالاة والتناصر بين المؤمنين يضعف صفوفهم، ويضعف جهودهم، فتقل قوتهم، فتكون الغلبة لصفوف الكافرين والمنافقين والظالمين، إذ عمل هؤلاء في الواقع على تعزيز الموالاة فيما بينهم، بل إنا لنجد صفوف الكافرين في العصور كلها أكثر تماسكا من صفوف أهل الإيمان، الذين يدب الخلاف سريعا في صفوفهم، لهذا تتابعت الآيات الكريمات، التي تحض المؤمنين على الموالاة والتناصر والتناصح، من ذلك قول الله عز وجل: [ ص: 143 ] ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (التوبة:71)، وقال النبي : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) [7] .

          ومثل هذه الدعوات تعد ضرورة لازمة لأي تحول حضاري كبير وحاسم في هذه المرحلة من واقع الأمة الإسلامية، فالتحدي الحضاري كبير وخطير جدا، ويهدد مصير الأمة وهويتها الإيمانية والحضارية، ومن المؤكد أن هذا التحدي لا يمكن مواجهته بجهود فردية متناثرة هنا وهناك. فلا بد من عمل بحجم التحدي، بل يجب أن يتفوق عليه ليغلبه، هذا يتطلب حتما - شرعا وعقلا - تكتيل الجهود وحشدها لبلوغ مقدار كبير وفعال من التأثير، فـإن لم يحصل ذلك فليس من السهل حتى التفكير بتجاوز الأزمة الحضارية الخانقة؛ ومن غير طعن بالجهد الفردي ولكنه وحده لا يسعه مواجهة التحدي، فإن الجهد الفردي يسعه ما لا يسع العمل الجماعي، وكذا الحال فإن العمل الجماعي يسعه كثيرا من العمل والجهد مما لا يسعه العمل الفردي.

          وتكتيل الجهود والعمل الجماعي لا تأتي في مقابلة العمل الفردي والجهود الفردية، بل هي في مواجهة التفرق والتشرذم، فذلك يترتب عليه كثير من المفاسد والمساوئ، قال الله جل شأنه: ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) (الأنفال:46)، فإن بناء الأمة يحتاج إلى تعزيز قيم المودة والمحبة والتآزر والتعاضد، فذلك مما يمنح مسيرة الأمة فعالية أكبر، ويرسخ خطاها على طريق الحق. [ ص: 144 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية