الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          سابعا: الإصلاح ونبذ الإفساد:

          أشارت سورة العنكبوت إلى الصلاح في موضعين منها، هما قول الله سبحانه: ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ) (الآية:9)، ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا ) (الآية:58)، والعمل الصالح هو ما وافق الشرع، لا يخالفه في شيء، في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والفضائل وكل ما يتشعب عن ذلك، فهو باختصار الاحتكام إلى شرع الله تعالى في الأمور كلها، فضلا عن العمل من أجل ذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي في الأرض بما يجلب النفع للمسلمين ويدفع عنهم الضر والفساد. هذا وقد أشار القرآن الكريم إلى الصلاح والإصلاح والصالحات وغيرها فيما يقرب من مائتي موضع منه.

          أما بشأن الفساد، فقد جاء في سورة العنكبوت قول الله سبحانه: ( قال رب انصرني على القوم المفسدين ) (الآية:30)، ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) (الآية:36). والفساد ما وقع منهيا عنه، وهو المعصية [1] ، والعثو أشد الفساد [2] .

          ويمكن القول: إن الفساد يذهب إلى معاني أخرى تفصيلية تتمثل بخلخلة نظام الحياة على هذا الكوكب، ذلك النظام الذي أراده سبحانه وتعالى نسقا [ ص: 145 ] إيجابيا للحياة، لتمـضي سلسـة منسـابة بما سخره الله للإنسان من مقومات طبيعية، إلا أن جشع الإنسان وطمعه، وإعراضه عن المنهج الإلهي في الاستخلاف جعله يفسد كل شيء وهو يحسب أنه يصلح، قال الله سبحانه: ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) (الروم:41)، فذنوب الناس تقف وراء هذا الفساد [3] .

          ولعل أخطر ما يتمثل بهذه الذنوب هو الإعراض عن منهج الله تعالى والأخذ بالمناهج الوضعية.

          إن مخلوقات الله على الأرض تسـيـر على وفق ما طبعها الله تعالى عليه، لا تنحرف عنه ولا تغيره، إلا الإنسان فهو الذي يمتلك الإرادة، وله ذاته المستقلة في الجماعة، لذا يظهر على الدوام أن لكل إنسان طريقته وأسلوبه وتفكيره الخاص، ومن هنا يظهر التغيير والتبديل في الأفكار والمعتقدات، فتظهر الحروب والصراعات، وتظهر أيضا الانحرافات في الأفكار والعقائد، ومن ثم في القيم، فيظهر الكذب والغش والخداع والنفاق، وعلى رأس ذلك الكفر [4] .

          فقد نهى الله تعالى عن الفساد في الأرض: ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) (الأعراف:56، 85)، ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) (البقرة:60)، [ ص: 146 ] ( والله لا يحب المفسدين ) (المائدة:64)، ( إن الله لا يصلح عمل المفسدين ) (يونس:81).

          وجاءت الرسل لإصلاح الحال في الأرض، فقال الله تعالى على لسان شعيب عليه السلام : ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ) (هود:88)، وقال الله سبحانه: ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) (الأعراف:56)، قال ابن القيم: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعوة إلى غير طاعة الله سبحانه، بعد أن أصلحها الله تعالى بإرسال الرسل، وبيان الشريعة، والدعوة إلى طاعة الله تعالى [5] .

          ومما تقدم، يمكن القول: إن الفساد المعني قرآنيا هو: العمل بالذنوب والمعاصي في سلوك الأشخاص بما فيه مخالفة لما أمر الله تعالى به ونهى عنه، بالإعراض عن الدعوة إلى الله تعالى، والإعراض عن شرعه وعدم الاحتكام إليه، والدعوة إلى غير الله تعالى من أفكار وفلسفات وضعية مختلفة، والدعوة للاحتكام إلى التشريعات الوضعية، ولا سيما مما فيه مخالفة لشرع الله تعالى ويتقاطع معه.

          كما يظهر الفساد في اختلال نظام [ ص: 147 ] الحياة كما شاء الله أن يكون على هذا الكوكب، ولهذا نجد ثمة اختلالات كبيرة في مجالات المناخ والحياة الطبيعـية، ونـظام الحـياة في القطبين الشمالي والجنوبي، واختـلال نظام الغـلاف الـغازي المحيـط بالـكوكب، وثـمة تـهـديدات جدية خطيرة تواجه الحياة على الأرض.

          ويأتي كل ذلك بسبب مخالفة منهج الله تعالى في الاستخلاف والإعمار على سطح هذا الكوكب، وهذا في جوهره يأتي بسبب اختلال منظومة القيم المحركة للنشاط الإنساني أو الضابطة له، فظهرت النزعات المادية التي تعكس الجشع والطمع الكبير باسم تحقيق أقصى درجات النفع والربح، حتى وإن كان الـثـمـن اخـتـلال نظام الحياة بعـامـة وفسـادها، ولا يعود الحال إلى نظامه إلا بالعودة إلى منظومة القيم، التي جاء بها الوحي لرسم ملامح حياة إيجابية فاعلة على سطح هذا الكوكب.

          إن الدعوة إلى نبذ الفساد، والامتناع عنه، تعني بالنتيجة الأخذ بمبادئ الإصلاح في نواحي الحياة كافة، ولا يكون الإصلاح إصلاحا إلا بإنفاذ شرع الله تعالى والعمل على وفق مقاصده، التي أرادها الله تعالى، حكمة من شرعه، فإن حفظ هذه المقاصد يوفر الأساس لسلامة الحياة ونظامها وقيمها، والإعراض عن الدعوات الضالة، التي ترى أن إصلاح حياة المسلمين يكون بمحاكاة المنهج الغربي في (التطور والتمدن والتقدم)، وهذا هو الباطل بعينه؛ لأن النظر إلى الحياة الغربية من زاوية التقدم العلمي والتقني وإغفال قيم هذه الحياة ومفاسدها منهج منحرف لا يفضي إلا إلى مزيد من الإفساد في واقع حياتنا، التي تحتاج إلى الإصلاح في نواحيها كافة. [ ص: 148 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية