الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          ثانيا: الجهاد والمجاهدة:

          وردت الإشارة إلى الجهاد في سورة العنكبوت في موضعين كما في قول الله عز وجل: ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ) (الآية:6)، وقوله: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) (الآية:69). والراجح أن مقصود الآيتين جهاد عام، يراد منه جهاد الكفار وجهاد النفس وما يتعلق بها، مع أن السورة مكية ولم يكن الجهاد قد فرض على المسلمين بعد [1] . ولكن الإشارة جاءت من باب الاستعداد لمرحلة جديدة تقتضي كل أنواع الجهاد.

          وعمـوم الجـهاد هو الدعوة إلى الحق [2] ، سواء أكان هذا الجهاد بالقتال أم بالدعوة. والجهاد أيضا: الاجتهاد في حصول ما يحب الله من الإيمان والعمل الصالح، ودفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان [3] . فهو والحال هذه يتجه نحو الكفار من أجل دعوتهم لاعتناق الإسلام، ويتجه نحو العصاة والفساق بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ويتجه نحو النفس أيضا لتقويمها، وهذا الأخير يعرف بالمجاهدة، وبناء على هذا التوصيف فإن الجهاد من أعظم القيم، التي جاء بها الإسلام، وبها يعلو الحق ولا يعلى عليه. [ ص: 113 ]

          ومن يمارس أحد هذه الأنواع من الجهاد أو كلها ينطبق عليه مضمون الآيتين، فإن هؤلاء سيهديهم الله إلى خير سبل الإيمان، بالثبات على الإيمان [4] . كما تكون هدايتهم بالدلالة إلى الله تعالى، ومعرفته حق المعرفة، وهي هداية الإرشاد والتوفيق والسداد في خير العمل [5] . كما أن ذلك يعني أن المجاهد يصلح من نفسه وقلبه، ويرفع من تصوراته وآفاقه، ويستعلي بالجهاد على الشح بالنفس والمال، ويستجيش أفضل ما في كيانه من مزايا واستعدادات، وذلك كله يقع في باب الهداية أيضا.

          ومن ناحية أخرى، فإن المجاهد في هذه الأبواب الثلاثة إنما يعمل لنفسه، وأن الله تعالى غني عما يعمل، فالمرء يجاهد لنفسه لاستكمال فضائلها، وإصلاح أمرها وحياتها [6] ، وثواب ذلك كله راجع إليه، ولا يرجع إلى الله جل شأنه من ذلك أي نفع [7] ، فإن الله تعالى لم يأمر المجاهد بأمر ينتفع هو منه، ولا نـهاه عن أمر بخـلا منه عليه [8] . ففي الحديث القدسي: ( ... يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا.. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، [ ص: 114 ] وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ) [9] . وخلاصة القول: إن الله تعالى لا يعود عليه نفع أو ضر من أعمال العباد، في طاعة أو معصية [10] .

          ومن الضروري بيان أن مجاهدة النفس هي أصل كل أعمال البر والصلاح التي يقوم بـها العـبـاد، وحـتى الجـهـاد في سبيـل الله، بالدعوة أو القتال، فإنه لا يستكمل فاعليته ونتائجه ما لم يجاهد العبد نفسه، ويسمو بها أمام قوى الاستكبار والمعصية وحبائل الشيطان.

          والمجاهدة محاربة النفس الأمارة بالسوء، بتحميلها ما يشق عليها بما هو مطلوب بالشرع من أمر ونهي [11] . وأصل المجاهدة، كما قال القشيري: "فطم النفس عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات، وللنفس صفتان مانعتان لها من الخير: انهماك في الشهوات، وامتناع عن الطاعات، فإذا جمحت عند ركوب الهوى وجب كبحها بلجام التقوى، وإذا حرنت عند القيام بالموافقات يجب سوقها على خلاف الهوى" [12] ، وذلك كله يهدف إلى [ ص: 115 ] "تكميل النفس وتزكيتها وتصفيتها لتهتدي بأخلاقها" [13] . والمجاهدة إتعاب النفس لإراحتها، وإماتتها لإحيائها [14] .

          وتتجه المجاهدة لتحدي أربع قوى تعمل لصرف المرء عن سبل الهداية والرشاد، وهذه القوى هي: النفس، والهوى، والشيطان، والدنيا [15] . فالنفس الأمارة بالسوء تريد تحصيل الملاذ وترغب فيها وتسعى إليها، فإذا قويت هذه النفس واستحكمت لم تبال أمن حلال أم حرام حصلت على ملاذها، فتتردى في الأعمال الفاسدة، لتغدو من قوى الفساد والإفساد في الأرض.

          كما أن أصحاب الأهواء والبدع لا ينفكون يدعون إلى أهوائهم وبدعهم، وربما نشطوا كثيرا وزينوا ما عندهم بأبهى حلة، مستجلبين إليهم أهل الغفلة والسذاجة ليغووهم بما عندهم من مفاسد وانحرافات فكرية وعقدية وتعبدية، ليفشوا الضلال والجهل في الناس.

          وكذا الحال مع الشيطان، الذي لا يكل ولا يمل عن نصب مكائده وحيله وشراكه لإغواء أهل الصلاح لجرهم بعيدا عن المنهج السليم في السلوك والدين والقيم والأخلاق، فتشيع الفاحشة والمنكر في الناس. [ ص: 116 ]

          والدنيا هي الأخرى، بما فيها من إغراءات وشهوات ومفاتن، تستدرج إليها بحلاوتها وجمالها ولذتها الناس من كل الأصناف، وكلما مضى الوقت (وتطورت الحياة) زادت مباهج الدنيا ومفاتنها، بل إن التطور الذي ما انفك يحصل في الدنيا، إنما هو تطور في وسائل الفتن وليس في القيم والمفاهيم والأفكار، التي هي - في الحقيقة - في تراجع مستمر، وهذا ما يزيد في أعباء المجاهدة، ويجعلها أكثر عبئا وأثقل وطأة، إذ راحت الدنيا توثق من حبالها وشراكها، ليصبح الخلاص منها أمرا عسيرا غير ممكن، أو أنه بالغ الصعوبة.

          فلما كانت الحال كذلك - أي أن قوى الفساد والانحراف في استشراء متزايد - تطلب الأمر حقا مجاهدة، بوصف أن الجهاد بذل كل ما في الوسع والطاقة والقدرة والفاعلية للتصدي لهـذه القـوى ومحـاربتها ومقارعتها، وهو ما يفضي إلى تفوق قيم الفضيلة والخير والعدل والحق والإنصاف، تلك القيم - التي هي لا غيرها - تحدد مسار الاستقامة في الدنيا والآخرة في آن واحد.

          وتأتي المجاهدة هنا بوصفها قيمة إيجابية عالية في مواجهة الغفلة والاسترخاء والرضوخ للقوى الداعية إلى القيم المنحرفة والأنماط السلوكية المنافية لقيم الوحي، الأمر الذي يقود إلى خواء البناء الحضاري من قيم الفضيلة، وهيمنة القيم المنافية لها. وهذا ما تشهده حقا الحضارة الحديثة، التي تبتكر في كل يوم وسيلة جديدة للإغواء والاستدراج، وهي تتجه في الغالب إلى الشباب، بوصفهم القوة المعول عليها في إحداث التغيير الحضاري المنشود، فإذا فسدت الأداة، مال البناء الحضاري إلى أن يكون شائها منحرفا عن منهج الاستخلاف، الذي شرعه الله جل شأنه. [ ص: 117 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية