الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          ثالثا: الهجرة:

          جاءت الإشارة إلى الهجرة في سورة العنكبوت في موضعين هما: ( فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ) (الآية:26)، وقوله سبحانه: ( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) (الآية:56).

          ومع أن بعض المفسرين قالوا في: ( إني مهاجر إلى ربي ) إنه توجه إلى ربـه لطلب رضـاه وطاعتـه [1] . وعن قتـادة: "إنـه ذاهب إلى ربـه بـعمله وقلبـه ونيته" [2] . فقد أشار معظم المفسرين إلى الهجرة المكانية، إذ هاجر إبراهيم عليه السلام من أرض أور - في العراق - إلى بيت المقدس [3] .

          وقوله: ( إني مهاجر إلى ربي ) يشير إلى أن الانتقال لم يكن على رغبته وهواه، بل انتقل إلى الوجهة، التي وجهه إليها ربه [4] . كما يحمل القول [ ص: 118 ] دلالة أخرى أنه فر بدينه إلى ربه، ملتمسا الأمان لعبادة الله [5] ، بعدما لقي من الأذى والعذاب من قومه بمحاولتهم إحراقه، فلم يجد بدا من ترك أرض قومه بالامتثال إلى أمر الله سبحانه بالتوجه إلى بيت المقدس.

          إذن فنية إبراهيم عليه السلام في الهجرة هي العمل على إظهار دين الله، والجد في ذلك، والتمكين له [6] . وهو بذلك أظهر حسن نيته، وحسن مقصده [7] . فلم تكن الهجرة لغرض من أغراض الدنيا، لم تكن للنجاة بالنفس والروح والجسد والهرب من الظلم السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، ولم تكن من أجل الكسب والمتاجرة، بل هاجر متقربا إلى ربه، ملتجئا إلى حماه، فهاجر بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه، هاجر من أجل إخلاص العبادة، وليخلص قلبه لربه، وليخلص له كيانه كله في مهجره، بعيدا عن موطن الكفر والضلال، بعد أن لم يبق ثم رجاء في أن يفيء قومه إلى الهدى والإيمان [8] .

          وعلى هذا، فإن الهجرة من أفضل القيم؛ لأن الإنسان يدع فيها المألوف من الأهل والوطن لإقامة دين الله الحق [9] ، إنها ترك للبيئة المثبطة المحبطة المانعة لإقامة الحق. [ ص: 119 ]

          ولتكتمل الدلالة وتتضح أكثر يقول الله سبحانه: ( إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) ، لذا قال العلماء: إن المسلم إذا كان في أرض يعمل فيها بالمعاصي ولا يقدر على تغييرها وإنكارها، فعليه أن يخرج إلى أرض يعمل فيها بالطاعات، ويتمكن فيها أن يعبد الله حق عبادته [10] ، وقد قال الله تعالى: ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ) (النساء:100).

          إن الهجرة في سبيل الله من أعظم القربات، عندما تكون خالصة لوجه الله تعالى بالفرار بالدين من أرض لا يسع المرء أن يعبد الله فيها كما يجب، إلى أرض يتمكن فيها من دينه؛ فهذه النية الخالصة لوحدها من أعظم القربات، فكيف إذا توافق معها تحمل أكبر المشاق والصعوبات؛ فذلك مما يزيد في هذه القربات.

          والهجرة هي من نوع المكابدة الشديدة، إذ يترك المرء كل ما هو مألوف، مطمئن إليه، من ديار وأهل وأصحاب ومحل رزق، ليذهب إلى المجهول، وكل مجهول يبعث على القلق والاضطراب، وهنا يترك المرء الراحة والدعة والأمان ليذهب حيث يترتب عليه ما هو خلاف ذلك، فهذا ولا شك تضحية كبيرة من أجل دين الله، من أجل أن يحفظ قيمه وسلوكه على الوجه، الذي يمثل مرضاة الله، فالهجرة حد فاصل بين نمطين مختلفين من القيم والمفاهيم والسلوك. [ ص: 120 ]

          فوطن المسلم حيث تكون مصلحة دينه، إذ قد يترتب عليه أن يكون رحالة سائحا، يجول من حي إلى حي، أو مدينة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، يعبد ربه ويدعو إليه، وقدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم [11] . بل إن الأنبياء والرسل تعرض معظمهم إلى الهجرة فرارا بالدين أو دعوة إليه. وليس للمؤمن أن يحمل هم الرزق في مهجره أو الخوف من الموت في طريقه إلى مهجره أيضا، فالله تعالى هو الرزاق وحـده، لا شريك له في ذلك. أمـا الآجـال فلا قابض لها إلا الله سبحانه؛ وأينما يكون المرء يدركه الموت.

          ولكن، أي هجرة هذه؟ إن هذه الهجرة محكومة بالنية أولا، كما تقدم ذكره، ولا سيما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى ذلك صراحة فقال: ( إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) [12] .

          أمـا قـول النـبي : ( لا هجـرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية ) [13] ، فلا يعني انقطاع الهجرة بعامة، بل إن ذلك وجب على أهـل مـكة تحـديدا، إذ أصبحت بعد الفتح بلدا من بلاد المسلمـين، أما إذا أسـلم شخـص من [ ص: 121 ] دار الكفر، وخاف الفتنة على دينه، وله ما يبلغه بلاد المسلمين فعليه أن يهاجر [14] ، حتى يضمن سلامة دينه ويأمن عليه من الفتنة.

          وهذا كله يتعلق بالجانب الأول من الهجرة، أما الجانب الثاني منها، الذي ينطلق من قول إبراهيم : ( إني مهاجر إلى ربي ) فتعني الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، بل إن هذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها [15] . وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة الكامنة في القلب، فإن كان الداعي قويا كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل، فإذا ضعف الداعي، ضعفت الهجرة حتى لا يكاد يشعر بها علما، ولا يتحرك لها إرادة [16] ، وهذا هو - بعامة - دلالة قول النبي : ( والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) [17] ، فيهجر المعاصي والذنوب، صغيرها وكبيرها، ويهجر أصحابها، ويهجر البدع والضلالات والأهواء، ويهجر أصحابها أيضا، لأن مصاحبة أهل الذنوب والبدع والأهواء قد يستدعي مشاركتهم فيما هم عليه، وهؤلاء بعامة كنافخ الكير، لا يسلم جالسه أبدا.

          والهـجـرة إلى الله جل شأنه هي الاتجاه إليه سبحانه، والانخلاع عن كل ما يعوق مسيرة المؤمن على طريق الإيمان، ولا يلتفت إلى ما يصيبه على هذا [ ص: 122 ] الطريـق في نفسـه وماله وأهـله من ضـر وأذى، ولو كـان المـوت راصـدا له [18] . قال القشيري: "لا تصح الهجرة إلى الله إلا بالتبري بالقلب من غير الله، والهجرة بالنفس يسيرة بالنسبة إلى الهجرة بالقلب، وهي هجرة الخواص" [19] .

          وقال ابن عطاء: "... راجع إلى ربي من جميع ما لي وعلي، والرجوع إليه عز وجل بالانفصال عما دونه سبحانه، ولا يصح لأحد الرجوع إليه تعالى، وهو متعلق بشيء من الكون، بل لا بد أن ينفصل من الأكوان أجمع" [20] .

          وعلى هذا الأساس، فإن الهجرة بشقيها - الجسدي والروحي - إنما هي إعادة صياغة للإنسان في اتجاهين رئيسين، الاتجاه الأول يتمثل بالهجرة الداخليـة، هجـرة تـرمي إلى إعـادة صيـاغـة القيم والأفـكار والمفاهيـم والمبـادئ، بمـا ينشئ منظومة جديدة تنطلق مما يريده الله تعالى ويرضاه، وأوحاه في شرعه؛ منظومة من القيم تضعه على طريق الاستقامة والفضيلة بمعانيها ودلالاتها ومتعلقاتها كافة، وهو في هذا المسعى إنما يسير حقا في طريق المجاهدة، التي تقدم الحديث بشأنها.

          أما الاتجاه الثاني، فيعني أن الهجرة تنقل المرء المؤمن المهاجر من السلبية والاسـتـكانـة والمـدافـعة إلى ميـدان الإيجـابية الفاعـلة، إذ يـكون قـد بـلغ البيـئة، التي يكون فيها أكثر قدرة على إنفاذ شرع الله تعالى في نفسه وفي بيئته، بعدما غادر البيئة المثبطة والمحبطة، إنه الإسهام الفاعل في إعادة بناء الأرض وإعمارها على وفق المنهج الإلهي في صياغة الحياة على هذا الكوكب. [ ص: 123 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية