ثالثا: قيم أخلاقية عامة:
جاءت الإشارة إلى مكارم الأخلاق في سورة العنكبوت في موضعين، واحدة بصيغة الاستنكار والثانية بصيغة المدح والثناء. أما الصيغة الأولى فجاءت في قول الله تعالى على لسان لوط : ( ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ) (الآيتان:28-29).
فأما الفاحشة فهي كل شيء جاوز الحد [1] ، وما عظمت قيمته من الأقـوال والأفعـال [2] . وترد في الاستعمـالات القرآنية للـدلالة غالبا على الكبائر المتعلقة بشهوات الفروج [3] ، من زنا ولواط، والعياذ بالله. أما المنكر فهو الأمر القبيـح [4] ، أو كل فعـل تـحكم العـقـول الصحيحـة بقبحـه، أو تتفق في قبحه العقول، فيحكم الشرع بقبحه [5] . فهو كل قبيح ينكره الشرع، وينهى عنه نهي التحريم [6] . [ ص: 165 ]
وعليه، فإن الذي فعله أهل قرية سدوم، وقد نزل فيهم لوطا عليه السلام ، أنهم أخذوا يأتون بعضهم بعضا بالفعل الفاحش، وهو الفعل، الذي لم يسبقهم إليه أحد، بحسب الإخبار القرآني، وهي من الرذائل الشاذة القذرة، التي تدل على انحراف الفطرة الإنسانية وفسادها في أعماقها.
ومن الطبيعي جدا أن قوما قد فشت فيهم هذه الفاحشة، فمن باب أولى أن يشيع بينهم الكثير مما هو دون ذلك من القبائح، ويبدو أنهم كانوا يتبارون في نواديهم وتجمعاتهم بإتيان المنكرات، فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: "إن قوم لوط كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة، منها: أنهم يتظالمون فيما بينهم، ويشتم بعضهم بعضا، ويتضارطون في مجالسهم، ويخذفون، ويلعبون بالنرد والشطرنج، ويلبسون المصبغات، ويتناقرون بالديكة، ويتناطحون بالكباش، ويطرفون أصابعهم بالحناء، وتتشبه الرجال بلباس النساء والنساء بلباس الرجال، ويضربون المكوس على كل عابر، ومع هذا كله كانوا يشركون بالله" [7] . ولا حرج في أن تكون نواديهم بؤر خمور وقمار وفسق وفجور، وعدوان على الضعفاء [8] ، وكأن ذلك شبيه بنوادي العراة التي يشهدها الغرب في الوقت الحاضر، كما لم تكن لطرقاتهم حرمة، فيسخرون ممن مر بهم، وربما [ ص: 166 ] ضربوه بالحصاة [9] . إنه مجتمع مثالي للفسوق بأشكاله وألوانه كلها، لذلك استحق أن يحل بهم سخط الله تعالى وعقابه على شنائعهم هذه.
هذه المشاهد، التي استنكرها القرآن الكريم تتضمن الدلالة للدعوة لخلق بديل ومغـاير ومخـالف تـمـاما، يستـنـد إلى كل قيـم الفضيـلـة ومكارم الخلق، بما يتسق والفطرة السليمة للإنسان، ومع ما أوزعه الله تعالى من شرائع تنتظم الحياة بين بني البشر بعيدا عن العدوان والتظالم، وبما يحفظ كيان الإنسان على أساس الاحترام والتقدير وما كرم الله تعالى به هذا المخلوق، بأن فضله على سائر خلقه، باستقامة القوام، ومنحة العقل الرشيد، والفطرة السليمة، وأمره الملائكة بالسجود لأبي البشر آدم عليه السلام .
أما الإشارة الأخـرى فجـاءت في قـول الله عز وجل في مدحه الصلاة وما لها من أثر في استقامة خلق الإنسان: ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) (الآية:45).
ابتداء نقول: إن الصلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر نهيا تلقائيا وجوبيا، فليس كل مصل منته عن الفحشاء والمنكر، فثم كثير من المصلين، وربما ممن يبادر إلى الصف الأول في صلاة الفجر، لكنه لا يتورع عن كثير من المنكرات، وربما الفواحش أيضا، ولكن الذي يدخل في الصلاة - من جانب آخر - يمتنع عن الفاحشة والمنكر في حال صلاته، فإذا انصرف من صلاته [ ص: 167 ] تغير حال بعضهم، فلم يتورع عن ارتكاب فاحشة أو منكر. إذن كيف يمكن للصلاة أن تكون ناهية عن الفحشاء والمنكر؟
إن في الصلاة ثلاث خصال؛ الإخلاص، والخشية، وذكر الله، فكل صلاة ليس فيها من هذه الخصال فليست بصلاة، فالإخلاص يأمر بالمعروف، والخشية تنهى عن المنكر، وذكر الله وتلاوة القرآن فيها الأمر والنهي [10] . فعن ابن عباس، رضي الله عنهما: "في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله" [11] ، إنها بمنزلة الناهي، لإظهارها ما هو بمنزلة القول: لا تفعل الفحشاء، ولا تفعل المنكر [12] ، وهي بمثابة لطف الله تعالى بعباده، فيها نهي مستمر ومتواصل عن المعاصي [13] .
هنا ينصرف القول إلى الصلاة نفسها، فأي صلاة هذه التي تنهى عن هذه المعاصي؟ هذه الصلاة هي التي يتوفر فيها:
- المواظبة عليها، فمن يواظب على الصلاة، يقيمها في أوقاتها، فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر [14] . ومواظبتها تعني الاستعداد النفسي والروحي والبدني لها، بتحر أوقاتها، والانقطاع عما يشغل عنها من عمل أو غيره، [ ص: 168 ] والمبادرة إلى الصفوف الأولى، ويحسن المرء وضوءه ويسبغه، فمثل هذا الجهد والمثابرة سيحرص صاحبه - حتما - على قطف ثماره وعدم إضاعته بمعصية من المعاصي. فإذا واظب على الصلوات الأخرى مما سوى الفريضة، من سنن ونوافـل وقيام ليـل، كان ذلك أعمـق في التأثـير على سلـوك المصـلي وأبعد في تقويم سلوكه.
- وتستند الصلاة في قبولها عند الله تعالى على إخلاص النية فيها، ونيتها الصادقة أن تكون الصلاة خالصة لله عز وجل، فهذا هو الذي يدفع إلى الانتهاء عن الفحشاء والمنكر [15] . [ ص: 169 ] فمن كان مرائيا في صلاته، يتزين بها للناس وليس لله تعالى، فإنه يكون في الحقيقة أقرب إلى الفاحشة والمنكر.
- الخشوع في الصلاة، من العوامل المهمة والمؤثرة في سلوك المصلي، فالخشوع يعني استحضار المصلي لخوفه من الله تعالى، واستحضاره لجبروت الله وعظمته، فيرق قلبه، ويلين جانبه، فلا يميل إلى المعاصي [16] . أما من كانت صلاته بلا خشوع، فهو أقرب إلى السهو والغفلة فيها، ومن ثم فإنه أشبه شيء بمن يؤدي حركات رياضية بدنية لا غير، وليس فيها الاستحضار الروحي المطلـوب، إنـها صـلاة عـادة وليست عبـادة، فأنى لهـا في النهـي عن الفحشاء والمنكر؟!
- وأخيرا، فإذا تدبر المرء صلاته، وتدبر ما يتلو فيها، كان ذلك من أسباب الانتهاء عن الفحشاء والمنكر [17] ، فإن من سبل صحة الصلاة تدبر أمرها بعامة، ولا سيما ما يتلى فيها، حتى تكون صلاة صادقة عميقة مجردة من السهو والغفلة. فمثل هذه الصلاة تسهم حقا في تقويم سلوك المرء بتجنب أشـكال المـعـاصي كلها، ففـيـها يتـطـتهر الفـؤاد، ويزداد الإيـمـان، وتتـقوى الرغبة في الخير والصلاح، وتتراجع كثيرا رغبة المصلي في الشر والمعاصي [18] .
وعلى وفق هذه المعطيات تسهم الصلاة والعبادات الأخرى من صوم وحج وتلاوة قرآن وذكر الله في تقويم السلوك الإنساني وتزكيته من الفواحش والمنكرات؛ إنه التخلي عن قيم الرذيلة والتحلي بقيم الفضيلة، ولا يجوز التحلي قبل التخلي.
أما من كانت صـلاته غـير ناهية له عن الرذائل فما هي بصلاة، قال النبي : ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا ) [19] ، وقال الحسن وقتادة، رحمهما الله: "من لم تنهه صلاته عن [ ص: 170 ] الفحـشـاء والمـنـكر فليـسـت صلاته بصلاة، وهي وبال عليه" [20] ، وقيل لابن مسعود رضي الله عنه : إن فلانا كثير الصلاة! قال: "فإنها لا تنفع إلا من أطاعها" [21] ، فإن الله عز وجل لغـني عـن الصـلاة، وعـن كل العبادات، فإنه لم يرد منها إلا الإقرار له بألوهيته، والإقرار له بذلك يتـوجب طاعته طاعـة تامة مطلقـة غير منقـوصـة، وعدم طاعة أحد في معصيته، وهكذا يمكن ضمـان سـلامة تقويـم سـلوك الإنسـان وقيـمه المختـلـفة، فما الأخلاق الحميـدة إلا ثـمـرة من ثـمـرات الإيـمان الحق، فكلما كمل إيمان المرء ازداد حسن خلقه، والعكس صحيح أيضا؛ فقال النبي : ( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ) [22] . وقوله : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان ) [23] ، وهكذا نجد أن كثيرا من أبواب الإيمان من أعمال مكارم الأخـلاق والفضـائل الحسنة، وكلما أتى المرء شيئا منها ازداد إيمانه؛ لأن الإيمان - كما تقدم ذكره - يزيد بأعمال الطاعات والقربات، وينقص بفعل المعاصي والآثام. [ ص: 171 ]