الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          القيم الحضارية في الخطاب القرآني (سورة العنكبوت أنموذجا)

          الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

          أولا: الدعوة إلى الحق:

          لعل الدعوة إلى الحق واحدة من أهم عوامل التحول الحضاري وأخطرها وأكثرها تأثيرا في حياة البشرية، فما التحولات الحضارية الكبرى في تاريخ البشرية إلا ثمرة لهذه القيمة العظيمة، فعلى أساس الدعوة قامت اليهودية، وأنشأ بنو إسرائيل كياناتهم السياسية. وعلى أساس دعوة المسيح عليه السلام انتشرت النصرانية، وبتبني الإمبراطورية الرومانية لهذه الديانة أحدثت تحولا كبيرا في تاريخ البشرية، أيضا؛ ولما جاءت دعوة الإسلام، وحمل المسلمون رسالتها، تمخض الأمر عن أعظم التحولات في تاريخ البشرية، سياسيا وحضاريا، ليتبين من ذلك أن الدعوة إلى الحق من أعظم القيم أهمية، وأن العمل في سبيل الدعوة من أكثر الميادين فاعلية وأهمية وخطورة.

          والدعـوة إلى الحـق هي الـدعـوة إلى الله تعالى، لقوله تبارك وتعالى : ( له دعوة الحق ) (الرعد:14)، وقوله سبحانه : ( قل الله يهدي للحق ) (يونس:35)، وقوله تعالى: ( ما ننزل الملائكة إلا بالحق ) (الحجر:8)، وقوله عز وجل: ( الله الذي أنزل الكتاب بالحق ) (الشورى:17)، وكل دعوة إلى غير الله جـل شأنه هي دعـوة إلى باطـل، وكل دعـوة إلى خـلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من شرائع وقيم ومفاهيم هي باطل أيضا.

          تضمنت سورة العنكبوت الحديث المجمل والعام عن الدعوة لخمسة أنبياء ورسل هم: نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى، عليهم السلام؛ قال الله [ ص: 100 ] سبحانه: ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ) (الآية:14)، وقال سبحانه: ( وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) (الآية: 16)، ( ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) (الآية:28)، ثم قوله عز وجل: ( وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) (الآية:36)، ( وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ) (الآية:39).

          والدعوة تعني حث الناس على الخير والهدى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للفوز بالسعادتين العاجلة والآجلة [1] ، وتكون بحثهم على الإيمان بما جاء به الرسل والأنبياء، بتصديقهم فيما أخبروا عنه، وطاعتهم فيما أمروا به ونهوا عنه [2] .

          وبإيجاز شديد، تعني شرعا: دعوة الآخرين من غير المسلمين إلى اعتناق الدين الإسلامي؛ في حين تعني الدعوة في أوساط المسلمين العمل على تحسين إسلامهم بحثهم على التزام الطاعات واجتناب المناهي، التي نهى الشرع عنها. [ ص: 101 ]

          ومهما بلغت عقول البشر من تقدم ورقي، فإن مداركهم العقدية تبقى محدودة، فلا تبلغ ما جاء به الرسل من مقومات الإيمان إلا باتباع الرسل وتصديقهم [3] . فـ"الرسالة ضرورية للعباد، لا بد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم، ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟!" [4] .

          من أجل ذلك، فإن الدعوة إلى الله واجب مكلف به كل مسلم ومسلمة على سـبـيـل الوجـوب الكفائي أو العينـي [5] ، إذ لا يـقـتـصر الأمر على العلماء أو الجهات الدعوية المختصة، فقد جاء الخطاب القرآني في هذا الشأن عاما شاملا للجميع، وكذا الحال بالنسبة للسنة النبوية؛ قال الله جل شأنه: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) (النحل: 125)، ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) (يوسف:108)، ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) (آل عمران:104). [ ص: 102 ]

          ومما جاء في السنة النبوية قول النبي : ( بلغوا عني ولو آية ) [6] . وقوله : ( من رأى منـكم منـكرا فليـغيره بيده، فإن لم يستـطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [7] ، وفيهما خطاب عام لجميع المسلمين، ومما يؤكد ديمومة الدعوة واستمرارها في هذه الأمة قول النبي : ( إن الله يبعـث لـهـذه الأمـة عـلى رأس كـل مـائة سنـة من يجـدد لها دينها ) [8] .

          قال العلماء: الأولى حمل الحديث على العموم، فليس المقصود منه شخص واحد بعينه، بل قد يكون أكثر، فإن انتفاع الأمة بالفقهاء وولاة الأمر وغيرهم ممن يقوم على الدعوة من قراء ووعاظ وزهاد وغيرهم يكون أكبر [9] .

          فكل فرد في الأمة مدعو - من موقعه - لكي يسهم في تفعيل قيم الدين الإسلامي في نواحيها المختلفة، ليكون أكثر فاعلية وتأثيرا في رجوع الأمة إلى سياقها الحضاري الإسلامي وهويتها الخاصة عبر استعادة ملامح الحياة الإسلامية الشرعية وتفعيلها.

          ولعل النشاط الدعوي هو أسمى ما يمكن أن يقوم به المسلم من عمل؛ لأنه دعوة إلى الله تعالى، قال الله عز وجل: [ ص: 103 ] ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا ) (فصلت:33)، وترتبط به الخيرية المطلقة: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110).

          وتهدف الدعوة، في إطارها العام، إلى إخراج الناس من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية إلى نور المعرفة بالله تعالى وبشرائعه في العقيدة والمعاملات والعبادات والفضائل، وتسعى إلى أن تأخذ شـرائع الله تعالى طريقها إلى حياة النـاس العملية في شـؤونهم كافة أيضـا، فلا يعودون يحتكمون إلى شرع غير شرع الله تعالى؛ فيسود بذلك الحق والعدل والخير والسلام والأمان، ولا يمكن لكل ذلك أن يتحقق من دون تحكيم شرع الله سبحانه، الذي ارتضاه نظاما لبني البشر في حياتهم الدنيا.

          والداعي إلى الحق مكلف بتبليغ هذا الدين، ولكنه غير مسؤول عن النتائج: ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (العنكبوت:18)، فإن الله تعالى طالب رسوله بالتبليغ ولم يطالبه بالنتيجة: ( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ ) (الشورى:48)، فإن الأمر في مجمله بيد الله تعالى، وهدايتهم متعلقة به: ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) (القصص:56)؛ فالداعي يلقي بذوره ويمضي والله تعالى يتكفل بالنتائج [10] . [ ص: 104 ]

          لكن ذلك لا يعني التهاون في الأمر والتعامل معه شكليا على أساس إسقاط الفرض فحسب، بل يتطلب الأمر الأخذ بكل ما أمكن من أسـباب مناسـبة لبـلوغ الهـدف المنشـود والنهائي، وهو تحكيم شـرع الله في الأرض.

          ومن المؤكد أن العمل في الدعوة ليس عملا سهلا ميسورا، وطريقه ليست معبدة، ولا مفروشة بالورود، بل إنه ليعد في كثير من الأحيان من أشق الأعمال وأكثرها خطورة. فقد يشعر الداعية بطول الطريق ويستوحشها، وقلة الأعوان، وضعف النتائج، فيوسوس الشيطان له بالإحباط واليأس، فيتوقف عن الدعوة؛ لأنه يرى النتائج بعيدة جدا [11] . وما جاء ذكر الدعوة في سورة العنكبوت إلا لبيان كثير من هذه الجوانب.

          فقد أرسل الله تعالى نوحا إلى قومه، فلبث يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فما نجح في إقناعهم، حتى أن الرجل من قومه كان يأخذ بيد ابنه، فينطلق به إلى نوح عليه السلام ، فيقول له: احذر هذا، فإنه كذاب! فإن أبي قد مشى بي إلى هذا وأنا مثلك، فحذرني منه، فاحذره، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه، فتعاقبت الأجيال على الكفر والتكذيب بدعوته [12] . ففي ذلك خطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تأسف على [ ص: 105 ] من كفر من قومك، ولا تحزن عليهم، فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، بيده الأمر وإليه ترجع الأمور [13] .

          وذكر المدة الطويلة لدعوة نوح عليه السلام ، وهو لم يجزع من الدعوة ولم يتوقف عنها، تسلية للدعاة جميعا في كل زمان ومكان، إنكم لن تمضوا إلا يسيرا جدا مما مضاه نوح عليه السلام ولم ييأس، فلا تيأسوا ولا تقنطوا ولا تتوقفوا، فإن لكم الأجر والثواب بغض النظر عن النتائج.

          وتمثل الأنموذج الثاني بدعوة إبراهيم عليه السلام ، فبعدما أقام عليهم الحجة البالغة والداحضة: ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) (العنكبوت:24)، وأقام عليهم الحجج العقلية والمنطقية أخذهم العناد والاستكبار، ونأوا بأنفسهم عن تصديقه، كيف ينقاد الجمع الكبير لواحد فقط؟ كيف ينقاد الكبار والشيوخ لفتى منهم؟ فأخذتهم العزة في أنفسهم، وأشفقوا عليها من الانـكسار للحـق، فـقرروا إحراقـه بالنار، لم يقرروا طرده أو حبسه أو نفيه، بل قرروا حرقه بالنار؛ ليكون عبرة لمن تسول له نفسه أن يدعوهم للحق، ففي ذلك درس بليغ للدعاة، جاء الله تعالى بأقصى احتمال متوقع يمكن أن يواجهه دعاة الحق. [ ص: 106 ]

          فاضرم القوم نارا مستعرة هائلة وقذفوه إليها بالمنجنيق، فجعلها الله تعالى عليه بردا وسلاما، وخرج منها سالما بعدما مكث فيها أياما [14] ، ولم تحرق منه سوى وثاقه [15] ، لكن الله تعالى إذا كان أعطى هذا الأنموذج، الذي كتب لصاحبه النجاة، فإن ثم مثالا آخر حرق فيه الكافرون أصحاب الحق - وفيهم الأطفال والرجال والنساء - بالنار حتى تفحموا، ولم يصدهم ذلك عن الحق: ( قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) (البروج:4-8).

          ثم أشارت سورة العنكبوت إلى ما لاقاه كل من لوط وشعيب من الإعراض والصدود من جانب أقوامهم، ورفضهم الاستجابة حتى حل عليهم عذاب الله سبحانـه لـتـمـاديهم في التكذيب، فقال تعالى في شأن قوم لوط: ( إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ) (الآية:34)، أما قوم شعيب: ( فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ) (الآية:37).

          إلا أن سنن الصـراع بين الحـق والبـاطـل تـفـضـي إلى انـتـصـار الحـق في المحـصـلـة، أما مـا يـلاقيه الدعاة والعاملون فما هو إلا من نوع الابتلاء، الذي يهـدف إلى تنقية الدعـاة من الوهن في صفوفهم، وليزداد عودهم [ ص: 107 ] صلابة وقوة ليكونوا على استعداد تام لإنجاز مراحل الدعوة كافة حتى تحقيق هدفها النهائي.

          وثم مفصل آخر مهم في الدعوة أشارت إليه سورة العنكبوت هو قول الله تعاظم شأنه: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) (الآيـة:46)، وهنا نشـير إلى أن الكتـاب العزيـز تضـمن مفـردات خـاصة تتـعلق بـ (الاتصال) بالآخرين، منها: الحوار والجدل والمراء والمحاجة، فما دلالة كل واحدة منها؟ وما هو انعكاسها على الدعوة؟

          من المؤكد أن مفردات القرآن الكريم ليست عفوية أو عشوائية، حاشا لله، بل يحمل كل منها دلالته الخاصة، بل إن المفردة الواحدة تأتي بعدة معان، يحكمها السياق، الذي ترد فيه. ولما كان القرآن الكريم قد نزل: ( بلسان عربي مبين ) (الشعراء:195)، ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) (يوسف:2)، إلى آيات أخرى يمثل هذا المعنى كلها، لتؤكد ضرورة الاحتكام إلى المعجم العربي لفهم مقاصد هذا الكتاب العظيم.

          فأما الحوار، فالحور من الجذر حور، والحور: الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، وحار إلى الشيء وعنه، والمحاورة: المجاوبة، والتحاور: التجاوب، ويتحاورن: يتراجعون الكلام [16] . ومع أن اللفظة وردت في القرآن الكريم عدة مرات إلا أن الراغب الأصفهاني والدامغاني لم يتوقفا عندها. [ ص: 108 ]

          ويفهم مما جاء في بيان معنى الحوار أن هناك استعدادا نفسيا أوليا عند المتحاورين لإمكانية تقبل رأي كل منهما الآخر، دل على ذلك القول بأن المحاورة المجاوبة، ويتضمن ذلك الإيجابية تجاه الأطراف المتحاورة، بما في ذلك الاستعداد للتخلي عن الآراء أو الأفكار أو المفاهيم والقبول بما عند الآخر، والهدف هو الوصول إلى الحق [17] .

          أما الجدل فهو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدل الحبل، جدلت الحبل: أحكمت فتله، ومنه الجدل، فإن المتجادلين يفتل كل منهما الآخر عن رأيه، وقيل الأصل فيه المصارعة وإسقاط الإنسان صاحبه على الجـدالة، وهي الأرض الصلبة [18] . والجـدل شـدة الفعل، ورجـل جـدل إذا كان أقوى في الخصام، وجادله: خاصمه، والجدل: شدة الخصومة، والجدل: مقابلة الحجة بالحجة، والمجادلة: المناظرة والخصومة [19] .

          وعند الوقوف عند هذه المعاني يمكن الخروج بالتصورات الآتية: وجود التنافر والتقاطع بين الطرفين المتجادلين، الذي يبلغ حد الخصومة المسبقة، [ ص: 109 ] والمنازعة أصلا بينهما، مع رغبة مسبقة في أن كل طرف منهما يسعى إلى تغيير قناعات الطرف الآخر في أفكاره وآرائه ومفاهيمه، ويهدف الجدل إلى إبلاغ الطرف الآخر بـ (الحق) الذي عند الطرف الأول [20] .

          والمـراء هـو الجـدال، ولـكن الجدال يكون ابتداء، أما المراء فيكون اعتراضا بعامة [21] .

          أما المحاجة، فالحجة: البرهان، وما دوفع به الخصم، والحجة: الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة، ورجل محاج: رجل جدل، والتحاج، التخاصم، وحاجه محاجة وحجاجا: نازعه الحجة، وحجه: غلبه على حجته [22] . والحجة: الخصومة [23] . والحجة: الدلالة المبينة للحجة، أي المقصد المستقيم الذي يقتضي صحة أحد الطرفين، والمحاجة: أن يطلب كل واحد أن يرد الآخر عن حجته ومحاجته [24] .

          وعلى وجـه العمـوم فإن المحـاجـة تدخل في معنى المجادلة، وهي أقرب إليها من المحاورة، بما تهدف إليه من دفع ما عند الآخر، فهي تحمل دلالة المدافعة وليس دلالة المجاوبة، كما هو حال دلالة المحاورة. [ ص: 110 ]

          بعد ما تقدم يتبين لماذا استخدم القرآن الكريم لفظة الجدل وما يشتق عنها للإشارة إلى التواصل بين طرفين نقيضين هما: الكفار والمؤمنين، ذلك لأن المؤمنين وهم يتجادلون مع الكافرين يضعون في حسابهم أن لا يأخذوا عنهم شيئا من أفكارهم وآرائهم ومفاهيمهم وتصوراتهم، مما يدخل في باب الدين وأحكامه وشرائعه وقيمه. ولم يرد لفظ الحوار في هذا السياق أبدا؛ لأن الحوار يعني إمكانية التقبل عن الكافرين شيئا من أفكارهم ومفاهيمهم، وهذا حرام قطعا في باب الدين وما يتشعب عنه؛ لأن قبول أي شيء عنهم يعني بالضرورة التخلي عن شيء مما جاء به الإسلام، ولا سيما أن الإسلام قد اكتمل تشريعه تماما عند وفاة النبي : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة:3).

          وعلى هذا الأساس يكون التواصل مع غير المسلمين على سبيل إقناعهم بقبول الإسلام وما جاء به كافة؛ وإبلاغهم بهذا الحق المكتمل الذي لا يعوزه شيء البتة، والوسيلة في ذلك تكون ( بالتي هي أحسن ) ، والأحسن هو الأعلى في الحسن [25] .. على أنه لا بد من القول: إن هذا لا يعني التعصب والجمود؛ لأن الأخذ عن غير المسلمين - مما يقع في باب الدين - يعني ضمنا الطعن في نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته؛ لأن ذلك يعني أن الدين يحتاج إلى [ ص: 111 ] إتمامه بالأخذ عن غير المسلمين.. ونؤكد أن المعني هنا مما يقع في شؤون الدين، أما عدا ذلك فمن الممكن الأخذ به، في إطار الضوابط الشرعية.

          ولقد التبس استخدام المفردتين: الجدل والحوار، عند بعض الكتاب والمفكرين، فاستخدموهما بوصفهما مفردتين مترادفتين، وهما أبعد ما يكون عن ذلك، إذ لكل منهما غايته المختلفة، وأجواءه المتباينة [26] .

          وأخـيرا، لا بد من بـيـان أن الجـدل على نوعـين؛ ممـدوح ومذموم، فالجدل الممدوح هو ما قصد به تأييد الحق وإبطال الباطل، أما الجدل المذموم فهو كل جدل بالباطل، أو يفضي إليه، أو كان القصد منه التعالي على الخصم والغلبة عليه [27] .

          وعليه، فإن النصوص الشرعية الآمرة بالجدل محمولة على الجدل الممدوح، كقول الله جل شأنه: ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) (النحل:125)، أما النصوص الشرعية، التي ذمت الجدل فمحمولة على النوع الثاني المذموم، كقول الله عز وجل: ( ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق ) (الكهف:56). [ ص: 112 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية