خامسا: المعاملة بالحسنى:
أشارت سورة العنكبوت إلى أهل الكتاب في قول الله عز وجل: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ) (الآية:46). وقد اختلف العلماء في حكم الآية، فقال بعضهم منسوخة، وقال آخرون بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين [1] . إلا أن جمهرة من العلماء قديما وحديثا أكدوا أن الآية محكمة وليست منسوخة [2] ، وأنه لا تعارض بين هذه الآية وآية السيف في قتال المشركين، وآية السيف ليست ناسخة لها [3] . وقد عزز هذه الآية قول الله سبحانه وتعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) (النحل: 125)؛ فضلا عن أمر الله تعالى لموسى وهارون، عليهما السلام، وهو يأمرهما بالتوجه إلى فرعون ودعوته إلى الإيمان بالله تعالى: ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) (طه:44).
وقد أشار قول الله تعالى: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) (العنكبوت:46)، إلى طريقـة دعـوة أهل الكتاب إلى الإسلام، من دون أن يـتـضـمـن ذلك أي شـكل مـن أشـكال الإكـراه: [ ص: 180 ] ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) (البقرة:256)، واستنادا إلى ذلك فإن دعوتهم تكون بالتي هي أحسن، ومجادلتهم بالتي هي أحسن، ومعاملتهم بالحسنى: ( وقولوا للناس حسنا ) (البقرة:83)؛ فكيف تكون هذه المجادلة؟
من استقراء مجمل ما قاله العلماء يتبين أن المجادلة تكون بالتي هي أحسن عبر النقاط الآتية:
-القول اللين، وتجنب الخشونة، وعدم استخدام ألفاظ الذم والشتم والتوبيخ؛ فإن قالوا شرا فقولوا خيرا [4] ، وبالخصلة التي هي أحسن بمقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم، والسورة بالأناة [5] ، وأن تمتدح شريعة الإسلام من دون ذم ما تقدمها من شرائع [6] ، ويكون في الخطاب تبيين وتليين وبعد عن الهوى والتعصب [7] . ولا يمكن أن نعد ذلك ضعفا أو تهاونا، بل إن ذلك يخضع للهدف الرئيس وهو استمالة هؤلاء إلى الإسلام وتأليف قلوبهم، فإن الخشونة والغضب أبعد ما يقود إلى الهدف المنشود. ويساعد على ذلك وضوح النية، بأن لا تكون نية المجادلة لأجل المجادلة فحسب [8] . [ ص: 181 ]
-ومما يدخل في معنى بالتي هي أحسن عرض حقائق الإسلام كما حملتها آيات الله تعالى، بمنـطق الناصـح المرشـد، فذلك خـير ما يدعى إليه الناس، ولا يحملون عليه حملا وقسرا [9] . كما يتضمن ذلك الاستعانة بالحجة والدليل، الذي يلزم الطرفين، من قبيل الاستعانة بمسلمات المنطق العقلي، الذي لا يسع الخصم إلا القبول بها والتسليم لها، وإلا ظهر منه العناد والظلم [10] . ولا بد من أن يكون ذكر الحجة مجردا من أي غضب أو شتائم وسباب لقول الله سبحانه: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) (الأنعام:108)، فإن الاستعانة بالغضب مع الحجة يستدعي النفرة، فيمتنع حصول المقصود [11] .
- ويدخل في ذلك أيضا الانطلاق من الأسس المشتركة، في إطارها الجوهري العام، كما قال الله تعالى: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) (الآية:46)، وقوله سبحانه: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ) (آل عمران:64)؛ فأهل [ ص: 182 ] الكتاب مؤمنون بالله أيضا، وهم مستعدون لقبول الحجة، غير مظنون بهم المكابرة [12] ، فإن الإشارة إلى هذا الأساس المشترك مما يلين قلبوهم ونفوسهم ويطمئنهم إلى أن المسلمين لا يريدون أن يذهبوا بهم إلى غير عقيدتهم، التي جاء بها أنبياؤهم ورسلهم موسى وعيسى، عليهما السلام، وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل، فنحن نعترف بهم أنبياء ورسلا من الله، ونحبهم ونجلهم وننظر إليهم كما ننظر إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم ، فهذا أيضا مما يؤلف قلوبهم إلى دعوة الحق. كما أن ذلك يبين من ناحيـة أخـرى حـكـمة تتـابع الرسـالات، والكشف عما بينها من صلة، والاقتناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله المـوافـقـة لمـا قبلها من الدعـوات، المـكملة لهـا وفـق كلمة الله تعالى وعلمه بما يحتاجه البشر [13] .
أما قول الله تعالى: ( أحسن إلا الذين ظلموا منهم ) (العنكبوت:46)، فقال المفسرون: إن هؤلاء هم أهل الحرب، الذين آثروا قتال المسلمين، فيكون جدالهم بالسيف، أي بالقتال [14] ، في حين قال آخرون: إن الذين ظلموا هم الذين أفرطوا في الاعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح، ولم ينفع فيهم الرفق، فيكون التعامل معهم بالغلظة [15] . وأغلظوا عليهم كما أغلظوا عليكم [16] . [ ص: 183 ]
ولكن أعـجبـني كثيرا أسـلوب هـذا المسـلم الأمـريكي - وكان قد أسلم حديثا - وجعـل له مسـاعدين، فكان يسير في شوارع بلاده، يتفرس في الوجوه، فإذا وجد في أحدهم احتمال قبول دعوة الإسلام، قال له: هل تريد أن تكون مسلما؟ فيجيبه بعضهم بالإيجاب، فإذا كان كذلك طلب من أحد مساعديه الأخذ بيده إلى أقرب مسجد لعرض الإسلام عليه وشرح أساسياته له. وربما ابتسم أحدهم بوجهه ومضى لحاله، وربما - وهنا ما أقصده - وقف أحدهم وأخذ يلج في المحاجـجة، فيقول هذا المسـلم: دعوه لحاله ولا تردوا عليه، فلنا في غيره شغل ممن يقبل دعوتنا، فيتركه ويمضي [17] ، فيكون معنى ( إلا الذين ظلموا ) ، أي ليس من ضرورة تستدعي مجـادلة هـؤلاء، بل يتركون لعنادهم وظلمهم، وعدم الانشغال بحالهم، بل العمل على البحث عن سواهـم مـمن يرضـخ للحـق وللحجـة والمنطق، فهؤلاء يعرض عليهم الأمر بالحسنى.
وهذا هو صنيع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، ولنا في ذلك واقعتين؛ في الأولى قصد النبي صلى الله عليه وسلم "بيت المدراس" الخاص باليهود في المدينة، وطلب منهم أن يخرجوا له أعلمهم لمناظرته، فأخرجوا له "عبد الله بن صوريا"، وكان من أحبارهم، فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحلفه بالله إن كان يعلم أنه رسول الله، فقال: "اللهم نعم، وأن القوم - أي اليهود- ليعرفون ما أعرف، وإن صفتك [ ص: 184 ] ونعتك لمبين في التوراة، ولكنهم حسدوك"، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : "فما يمنعك أنت"؟ قال: "أكره خلاف قومي".. فتركه النبي صلى الله عليه وسلم ومضى [18] .. فمع أنه أقر بالحـق، لكنه آثر عدم اتباعه، وهذا من العناد، والعناد من الظلم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخشن له القول ولم يغلظ عليه.
وكذا الحال مع نصـارى نـجران، لما جـاء وفـدهم المـدينة وناظرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم دعاهم إلى المباهلة، فلما خلوا بأنفسهم، أقروا بنبوته صلى الله عليه وسلم ، وخافوا من المباهلة، فقرروا الانسحاب وعدم الدخول فيها، فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم وشأنهم [19] ، ولم يغلظ لهم في القول ولم يعنفهم.
وتندرج مثل هذه المواقف في باب الدعوة العملية، إذ إن الدعوة إلى الحق لا تقتصر على الخطاب القولي وحده، بل إن الدعوة عن طريق السلوك الأخلاقي الرفيع يشكل ميدانا مهما من ميادين الدعوة، وإن كثيرين من غير المسلمين جذبهم إلى الإسلام سلوك الأصدقاء والمعارف وزملاء العمل من المسلمين، لما ظهر من هؤلاء من خلق رفيع وأدب جم، ويدخل في ذلك طبيعة العلاقة، وطريقة التعامل مع غير المسلمين. [ ص: 185 ]