ولو صح والقصاص الواجب ليس بمال ، ولو لم تكن الذمة باقية حكما ; لما صحت الكفالة هنا وهذا بخلاف دين الكتابة فالحق هناك غير مطلوب ، وكذلك الديون الواجبة لله تعالى فإنها غير مطلوبة في الحكم في الدنيا والكفالة تكون بالحق فيشترط كون الحق مطلوبا في نفسه على الإطلاق وهناك الحق مطلوب في نفسه وبموته لم يتغير الحكم فبقي مطلوبا . وجه قول قتل عمدا وهو مفلس فكفل به كفيل بالدين الذي عليه - رحمه الله - أن الحق قد توى وإنما تصح الكفالة بالقائم مثلا من الدين دون التاوي . وبيان ذلك هو أنه لا يتصور قيام الحق بدون محله ، ومحل الدين الذمة . وقد خرجت ذمته بموته من أن يكون محلا صالحا لوجوب الحق فيها فإن الذمة عبارة عن العهدة . أبي حنيفة
ومنه يقال : أهل الذمة ، وأصل ذلك من الميثاق المأخوذ على الذرية المأخوذة من ظهر آدم صلوات الله عليه . قال تعالى { آدم من ظهورهم ذريتهم وإذ أخذ ربك من بني } الآية وتمامه بالإلزام المذكور في قوله تعالى { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } وذلك باعتبار صفة الحياة قبله . فأما بالموت فخرج من أن يكون أهلا لالتزام شيء من الحقوق في أحكام الدنيا ، فعرفنا أنه لم يبق له ذمة صالحة تكون محلا للحق ولكنه في أحكام الآخرة معد للحياة فتبقى الذمة في أحكام الآخرة ولهذا كان مؤاخذا به وهو معد للحياة في الدنيا عادة فلا تبقى الذمة في أحكام الدنيا وباعتبار المطالبة [ ص: 110 ] في أحكام الآخرة لا يمكن تصحيح الكفالة كما في ديون الله - جلت قدرته - . والدليل عليه أن الذمة لم تبق محلا لوجوب الحق فيها بعد الموت وكما يشترط المحل لابتداء الالتزام فكذلك يشترط المحل لبقاء الحق ولم يبق المحل ; فلا يبقى في أحكام الدنيا أيضا .
والكفيل إنما يلتزم المطالبة بما على الأصيل ولا يلتزم أصل الدين في ذمته ولم يبق في ذمة الأصيل شيء في أحكام الدنيا فلا تصح الكفالة وهذا الدين في حكم المطالبة دون دين الكتابة فالمكاتب يطالب بالمال ، وإن كان لا يحبس فيه ثم هناك الكفالة به لا تصح فهنا أولى بخلاف المفلس في حال الحياة فإن ذمته محل صالح لوجوب الحق فيها ابتداء فبقي الواجب وبخلاف العبد أيضا فإن له ذمة صالحة لوجوب الحق فيها ، وإن ضعفت ذمته بسبب الرق وبخلاف ما إذا مات مليا فالمال هناك خلف عن الذمة فيما هو المقصود وهو المطالبة والاستيفاء ; لأن الاستيفاء يكون من المال بجعل الأصل قائما حكما وهنا لم يبق خلف بعد موته مفلسا ، وتوهم أن يتبرع إنسان بماله فيقضى عنه الدين لا يجعل مال الغير خلفا عن ذمته قبل جعل صاحبه ، وبخلاف ما إذا كان بالدين كفيل ; لأن ذمة الكفيل هنا خلف عن ذمته وبعد صحة الكفالة قد يتحول الدين إلى ذمة الكفيل عند الضرورة وهو عند أداء الكفيل أو الهبة . وقد تحققت الضرورة هنا فلهذا بقي الكفيل في الكفالة وكذلك الرهن خلف عن الذمة فيما هو المقصود وهو استيفاء الدين منه بقدر استيفائه من محل آخر وإذا قتل عمدا فقد قال بعض أصحابنا - رحمهم الله - : لا تصح الكفالة عند - رحمه الله - وبعد التسليم يقول : القصاص الواجب بفرض أن يصير مالا بعفو بعض الشركاء أو تمكن الشبهة فتوهم توجه المطالبة في الدنيا بقضاء ذلك الدين يجعل الذمة باقية حكما فتصح الكفالة لهذا المعنى والحديث المروي في الباب يحتمل أن يكون ذلك من أبي حنيفة أو أبي قتادة رضي الله عنهما إقرارا بكفالة سابقة . فإن لفظ الإقرار والإنشاء في الكفالة سواء والعموم بحكاية الحال لا يثبت ويحتمل أن يكون وعدا منهما لا كفالة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتنع من الصلاة على الميت ليظهر طريق لقضاء ما عليه فلما ظهر الطريق لوعدهما ; صلى عليه لهذا . علي
( ألا ترى ) أنه ما روي أنه كان يقول رضي الله عنه بعد ذلك : ما فعل الديناران حتى قال يوما : قضيتهما فقال صلى الله عليه وسلم الآن بردت عليه جلدته ولم يجبره على الأداء وبه يتبين أنه كان وعدا لا كفالة . لعلي
والحديث الآخر شاذ ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف أن لذلك الرجل مالا ولكنه ما كان ظاهرا عند الناس فلهذا ندبهم إلى الضمان عنه ليصلي [ ص: 111 ] عليه ثم هذا حكم منسوخ ; لإجماعنا على جواز الصلاة على المديون المفلس والاستدلال بالمنسوخ لا يقوى . والله أعلم بالصواب .