الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا صالح الكفيل بالسلم الطالب من السلم على ثوب والسلم حنطة لم يجز ; لأن رب السلم بهذا الصلح يصير مملكا الحنطة من الكفيل بالثوب ، وإذا كان تمليك المسلم فيه من المسلم إليه بعوض لا يجوز فمن غيره أولى ، ثم هذا على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ظاهر ; لأنه لو صالح الكفيل على رأس [ ص: 53 ] المال لم يجز عندهما ، فإذا صالحه على شيء آخر أولى ، وعند أبي يوسف رحمه الله : يجوز صلحه مع الكفيل على رأس المال ; لأنه قائم مقام المسلم إليه مطلوب بطعام السلم كالمسلم إليه وصلحه مع المسلم إليه على غير رأس المال يكون استبدالا ويكون باطلا فكذلك صلحه مع الكفيل .

ولو صالح الكفيل رب السلم على أن زاده رب السلم درهما في رأس المال وقبضه لم يجز ; لأن أصل الطعام المسلم في المسلم إليه والكفيل مطالب به ، فلا يمكن إثبات هذه الزيادة على أن يملكها المسلم إليه ; لأنه ليس لأحد ولاية إدخال الشيء في ملكه من غير رضاه ولأن رب السلم ما أوجب له الزيادة إنما أوجبها للكفيل ، ولا يمكن إثباتها للكفيل ; لأن الزيادة ملحقة بأصل العقد وبأصل العقد لا يجوز أن يملك شيئا من رأس المال بالشرط ممن لا يجب عليه شيء من أصل طعام السلم ، وليس في ذمة الكفيل شيء من أصل طعام السلم فلهذا لا تثبت الزيادة على الكفيل أن يرد الدراهم ، ولأن الزيادة تثبت على أن يتغير بها وصف العقد والكفيل ليس بعاقد ، فلا يملك التصرف في وصف العقد ، وهو دليل أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في أن الكفيل لا يملك الصلح على رأس المال ; لأن ذلك فسخ للعقد ، وإذا عقد لم يكن إليه تغيير وصف العقد ، فلا يكون له ولاية فسخ العقد بطريق الأولى .

ولو قال الطالب للكفيل قد أغلى علي السلم فزاده الكفيل مختوم حنطة في السلم لم يجز ذلك كما لو زاده المسلم إليه ، ولم يحط به شيء من رأس المال ; لأن الكفيل لا يملك حط شيء من رأس المال ، فإن رأس المال صار متحققا للمسلم إليه وليس إلى الكفيل ولاية إسقاط حقه ، وقد بينا أن الكفالة بطعام السلم لا تمس رأس المال فلهذا لم يثبت حط شيء من رأس المال بزيادة الكفيل في طعام السلم .

ولو زاد رب السلم درهما على أن زاده الكفيل مختوم حنطة لم يجز ذلك أيضا ; لأن كل واحد منهما على الانفراد لا يمكن تصحيحه ، ولا يمكن أن يجعل هذا ابتداء إسلام الدراهم في مختوم حنطة من الكفيل ; لأنهما ذكرا ذلك على وجه الزيادة والزيادة تتبع الأصل فلو جعلنا هذا سلما مبتدأ كان أصلا لا زيادة فيكون غير ما أوجباه وذلك لا يجوز .

ولو كان السلم ثوبا مرويا فأعطاه الكفيل ثوبا أجود منه أو أطول منه على أن زاده رب السلم درهما لم يجز ; لأن هذه الزيادة لا يمكن إثباتها على سبيل الالتحاق بأصل العقد لما قلنا ، ولا يمكن إثباتها بمقابلة الجودة أو زيادة الزرع ; لأن رب السلم التزمها بيعا لا مقصودا بالمعاوضة ، وكذلك لو أعطاه ثوبا فرد على الكفيل درهما لم يجز ; لأن الكفيل لم يبايعه بشيء ، ولم يستحق عليه شيئا من المال ، فلا يمكن أن يجعل ذلك [ ص: 54 ] حطا في حق الكفيل ، ولو كان السلم طعاما فأعطاه الكفيل طعاما فيه عيب على أن يرد عليه درهما مع ذلك لم يجز ; لأن هذا مع الأصيل لا يجوز على ما بينا أن إقالة العقد في الوصف فكيف يجوز مع الكفيل ، ولو أعطاه طعاما فيه عيب وتجوز به رجع الكفيل على المكفول عنه بمثل ما كفل به ; لأن بعقد الكفالة وجب للطالب على الكفيل وللكفيل على المطلوب حق مؤجل إلى أن يقضي عنه ما التزمه ، وقد فعل ذلك حين أعطاه جنس حقه وتجوز هو بالعيب فيه فيرجع على المكفول عنه بمثل ما كفل به .

ولو أوفاه الكفيل السلم في غير الموضع الذي شرط فقبله كان له أن يرجع به على الأصيل في موضع الشرط ; لأنه استحق بالكفالة عليه مثل ما التزم وما له حمل ومؤنة تختلف ماليته باختلاف المكان فقبول رب السلم منه في غير الموضع المشروط بمنزلة قبوله المعيب فيكون له أن يطالب الأصيل بما استوجبه عليه بالكفالة ، وهو التسليم في الموضع المشروط ، ولو صالحه الكفيل على أن يعطيه السلم في غير موضعه ويعطيه الأجر إلى ذلك الموضع لم يجز الصلح ويرد الأجر ويرد الطعام حتى يوفيه عند الشرط كما لو كان هذا الصلح مع الأصيل ، وقد بيناه في البيوع .

ولو كان شرط عليه أن يوفيه إياه بالسواد فصالحه على أن يعطيه بالكوفة ويأخذ له كذا من الأجر لم يجز ذلك ويرجع عليه بذلك إن كان دفعه كما لو صالح مع الأصيل على ذلك ، وهذا ; لأنه يأخذ المسلم فيه مع الزيادة وتلك الزيادة خالية عن المقابلة .

وإذا صالح الذي عليه أصل السلم الكفيل من الطعام على دراهم أو شعير أو ثوب فهو جائز ; لأن ما استوجبه على المسلم إليه ليس بمستحق له بعقد السلم بل بعقد الكفالة والكفيل بالكفالة والأداء يصير كالمقرض لما أدى إلى المسلم إليه ، والاستبدال ببدل القرض وبالدين الواجب بغير عقد السلم صحيح ، ثم إن كان صلحه بعد الأداء فهو ضامن ، وإن كان قبل الأداء ، فإن أدى الطعام إلى الطالب برئا جميعا لحصول مقصود المطلوب ، وهو براءة ذمته بأداء الكفيل ، ولو أداه المكفول عنه رجع به على الكفيل ; لأن مقصود المسلم لم يحصل حين احتاج إلى أداء طعام السلم من ماله والكفيل بمنزلة المشتري منه لما أخذه ، ثم المقاصة بينهما إنما استوجب به الرجوع فيه ، فإذا أداه من مال نفسه لم تقع المقاصة فكان له أن يرجع على الكفيل به إلا أن يشاء الكفيل أن يرد عليه ما أخذه به منه ; لأنه أخذ بطريق الصلح ، وهو مبني على التجوز بدون الحق ، وقد بينا نظيره في سائر الديون .

التالي السابق


الخدمات العلمية