( وإذا ) ، ( فإن لزمه الدين في معاملة مال كشراء أو قرض فعليه البينة ) بإعساره في الأولى وبأنه لا يملك غيره في الثانية ; لأن الأصل بقاء ما وقعت عليه المعاملة ، نعم محل ذلك في مال يبقى ، أما غيره كلحم ونحوه فهو من القسم الآتي فيقبل فيه قوله بيمينه ، وله الدعوى على الغرماء وتحليفهم أنهم لا يعلمون إعساره ، فإن نكلوا حلف وثبت إعساره [ ص: 332 ] وإن حلفوا حبس وتقبل دعواه أيضا ثانيا وثالثا وهكذا أنه بان لهم إعساره حتى يظهر للحاكم أن قصده الإيذاء وكذا يقال في عكسه ، فلو ثبت إعساره فادعوا بعد أيام أنه استفاد مالا وبينوا الجهة التي استفاد منها فلهم تحليفه إلا إن ظهر قصد الإيذاء ، هذا كله إن لم يسبق منه إقرار بالملاءة . ( ادعى ) المدين ( أنه معسر أو قسم ماله بين غرمائه ) أو أن ماله المعروف تلف ( وزعم أنه لا يملك غيره وأنكروا )
فلو أقر بها ثم ادعى الإعسار ففي فتاوى القفال لا يقبل قوله إلا أن يقيم بينة بذهاب ماله الذي أقر بالملاءة به ، ولا يكفيه أنه يعلم ذهاب ماله ; لأنه ربما يعلم ذهابه لكنه لا يعلم ذهاب ما أقر به ، ويثبت الإعسار باليمين المردودة أيضا ويعلم القاضي حيث نفذ حكمه به خلافا للإمام ، ولو قال لغريمه أبرئني فإني معسر فأبرأه ثم بان يساره برئ ، ولو قيد الإبراء بعدم ظهور المال لم يبرأ ، ذكره الروياني في البحر ( وإلا ) بأن لزمه الدين لا في مقابلة مال كصداق وضمان وإتلاف ولم يعهد له مال ( فيصدق بيمينه في الأصح ) ; لأنه خلق ولا مال له ، والأصل بقاء ذلك ، ولو ظهر غريم آخر لم يحلف ثانيا كما في البيان وارتضاه ابن عجيل وهو ظاهر لثبوت إعساره باليمين الأولى ، والثاني لا بد من البينة ; لأنه خلاف الظاهر من أحوال الحر ، ويعلم مما تقرر حكم ما عمت به البلوى فيمن حلف أنه يوفي زيدا كذا وقت كذا ثم ادعى إعساره فيقبل قوله فيه بيمينه في عدم الحنث ما لم يعرف له مال كما أفاده الوالد رحمه الله تعالى ( وتقبل بينة الإعسار ) وإن تعلقت بالنفي لمكان الحاجة كالبينة على أن لا وارث سوى هؤلاء ( في الحال ) وإن لم يتقدم له حبس كسائر البينات ( وشرط شاهده خبرة باطنه ) لطول جوار ومخالطة ونحوها ; لأن الأموال تخفى فلا يجوز الاعتماد على ظاهر الحال .
نعم إن شهد بتلف المال لم يشترط فيه خبرة باطنه ، ولا تكفي شهادة البينة وحدها إلا مع يمين يحلفها المدين بعد إقامتها على أن لا مال له باطنا إن كان الحق لمحجور عليه أو غائب أو جهة عامة ، وإن لم تطلب أو لغيرهم وطلبت منه لجواز اعتماد الشاهدين الظاهر ، فإن لم تطلب لم يحلف كيمين المدعى عليه ، ويعتمد قول الشاهد بإعساره : إنه خبير بباطنه ، وإن عرفه الحاكم كفى كما يكفي علمه بالإعسار ، ولا يثبت بشاهد وامرأتين ولا بشاهد ويمين كما يأتي في القضاء ويكفي شاهدان كسائر الحقوق ( وليقل ) أي الشاهد : وهو اثنان كما مر ( هو معسر ولا يمحض النفي كقوله لا يملك شيئا ) ; لأنه لا يمكن الاطلاع عليه ، بل يجمع بين نفي وإثبات بأن يشهد أنه معسر لا يملك إلا قوت [ ص: 333 ] يومه وثياب بدنه .
واعترضه البلقيني أخذا من كلام الإسنوي بأنه قد يملك غير ذلك كمال غائب بمسافة القصر وهو معسر بدليل فسخ الزوجة عليه وإعطائه من الزكاة وكدين له مؤجل أو على معسر وجاحد وهو معسر أيضا لما ذكر ولأنه لا يلزمه الحج وبأن قوت يومه قد يستغني عنه بالكسب وثياب بدنه قد تزيد على ما يليق به فيصير موسرا بذلك .
قال : فالطريق أن يشهد أنه معسر عاجز العجز الشرعي عن وفاء شيء من هذا الدين ، أو معسر لا مال له يجب وفاء شيء من هذا الدين منه أو ما في معنى ذلك ، فإن أريد ثبوت الإعسار من غير نظر إلى خصوص دين قال أشهد أنه معسر الإعسار الذي تمتنع معه المطالبة بشيء من الدين ا هـ .
ويجاب بأن ما ذكره من الصيغ إنما يتأتى إطلاقه من عالم بهذا الباب وافق مذهب الحاكم فيه وأتى له بشاهدين يخبران بباطنه كذلك ، فلو نظرنا لما ذكره لتعذر أو تعسر ثبوت إعساره وفيه من الضرر ما لا يخفى فكان اللائق بالتخفيف ما ذكره الشيخان مع أنه المنقول ، ولا نظر للمشاحة التي ذكرها ; لأن المراد الإعسار في هذا الباب ، ولأنه لو قدر على الكسب أو كان معه ثياب غير لائقة به لم يخف على دائنه غالبا ، فكان سكوته عن ذلك قرينة على عدم وجودهما مع أن التفاوت بذلك لا ينظر إليه غالبا في قضاء الديون والحبس عليها .
قال الجوجري : ولا بد في الشهادة بالغنى من بيان سببه ; لأن الإعدام لما لم يثبت إلا من أهل الخبرة فكذلك الغنى ، قاله القفال في فتاويه ، ولو تعارضت بينتا إعسار وملاءة فسيأتي في الدعاوى وخرج بقول المصنف ولا يمحض النفي ما لو محضه ، لكن في شرح التنبيه للجيلي أنه لا ترد شهادتهم ا هـ .
ونص عليه في الشاهد بحضرة الورثة أنه يقول : لا أعلم أنه لا وارث له ، ولا يمحض النفي بأن يقول : لا وارث له فلو محضه فقد أخطأ ولم ترد شهادته ، قال الشافعي الزركشي : فليكن مثله ( وإذا ثبت إعساره ) عند الحاكم ( لم يجز حبسه ولا ملازمته بل يمهل حتى يوسر ) لقوله تعالى { وإن كان ذو عسرة } الآية ، وأفهم كلامه أن المديون يحبس إلى ثبوت إعساره وإن لم يحجر عليه بالفلس لخبر { } أي لي الواجد يحل عرضه وعقوبته يحل ذمه بنحو يا ظالم يا مماطل وتعزيره وحبسه . مطل القادر
أما الوالد ذكرا كان أو أنثى وإن علا من جهة الأب أو الأم فلا [ ص: 334 ] يحبس بدين ولده كذلك وإن سفل ولو صغيرا وزمنا ; لأنه عقوبة ولا يعاقب الوالد بالولد ولا فرق بين دين النفقة وغيرها ، وما جرى عليه في الحاوي الصغير تبعا للغزالي من حبسه لئلا يمتنع عن الأداء فيعجز الابن عن الاستيفاء رد بمنع العجز عن الاستيفاء ; لأنه متى ثبت للوالد مال أخذه القاضي قهرا وصرفه إلى دينه ، وقضيته أنه لو أخفاه عنادا كان له حبسه لاستكشاف الحال ، وهو ما اعتمده الزركشي ونقله عن القاضي ، لكن قولهم ولا يعاقب الوالد بالولد يأباه ، وكالوالد المكاتب فلا يحبس بالنجوم كما يأتي ، ومن استؤجرت عينه وتعذر عمله في الحبس تقديما لحق المستأجر كالمرتهن ولأن العمل مقصود بالاستحقاق في نفسه بخلاف الحبس فإنه لم يقصد إلا ليتوصل به إلى غيره ثم القاضي يستوثق عليه مدة العمل فإن خاف هربه فعل ما يراه ، ذكره في الروضة في باب الإجارة عن الغزالي وأقره ، وأخذ منه السبكي أنه لو استعدى على من استؤجرت عينه وكان حضوره للحاكم يعطل حق المستأجر لم يحضر وإنما أحضرت المرأة وحبست اتفاقا وإن كانت مزوجة ; لأن للإجارة أمدا ينتظر ، وقضيته أن الموصى بمنفعته كالمستأجر إن أوصى بها مدة معينة وإلا فكالزوجة ، ومثل من ذكر المريض والمخدرة وابن السبيل فلا يحبسون كما اعتمده الوالد رحمه الله تعالى وأفتى به ، بل يوكل بهم ليترددوا ، ولا الطفل والمجنون ولا أبوه والوصي والقيم والوكيل في دين لم يجب بمعاملتهم ، ولا العبد الجاني ولا سيده .
وعلم من الحبس أن الحر لا يباع في دينه وقضاء عمر وعلي رضي الله عنهما بذلك بين الصحابة ولم يخالفا مما انعقد الإجماع على خلافه فدل على أنه منسوخ ، وحكاية قولا عن ابن حزم به غريبة لا تعويل عليها ، ويخرج المحبوس للدعوى عليه فإن حبس للثاني أيضا لم يخرج إلا باجتماعهما ، وأجرة الحبس والسجان على المحبوس ونفقته في ماله : أي إن كان له مال ظاهر ، وإلا ففي بيت المال ثم على مياسير المسلمين كما هو ظاهر ، فإن لم ينزجر بالحبس ورأى الحاكم ضربه أو غيره فعل ذلك وإن زاد مجموعه على الحد ولا يعزره ثانيا حتى يبرأ من الأول ، وفي تقييده إذا كان لجوجا صبورا على الحبس وجهان أصحهما جوازه إن اقتضته مصلحة ، ولا يأثم المحبوس بترك الجمعة والجماعة ، وللقاضي منع المحبوس منهما إن اقتضته مصلحة ، ومن الاستمتاع بالزوجة ومحادثة الأصدقاء [ ص: 335 ] لا من دخولها لحاجة ، وله منعه من شم الرياحين ترفها لا لمرض ونحوه ولا من عمل صنعة فيه ولو مماطلا . الشافعي
ولو فيما يظهر سقطت نفقتها مدته وإن ثبت بالبينة ، ولا تمنع من إرضاع ولدها ، ويخرج المجنون من الحبس مطلقا ، والمريض إن فقد ممرضا فإن وجده فلا ، والكلام هنا في طرو المرض على المحبوس فلا ينافي ما مر من عدم حبس المريض ; لأنه بالنسبة للابتداء ( والغريب العاجز عن بينة الإعسار يوكل القاضي به ) وجوبا ( من يبحث عن حاله ، فإذا غلب على ظنه إعساره شهد به ) لئلا يتخلد حبسه لو أهمله القاضي ، وبما تقرر علم أنه يحبسه قبل أن يوكل به وهو كذلك وأجرة الموكل به في بيت المال ، فإن لم يكن ففي ذمته إلى أن يوسر فيما يظهر فإن لم يرض أحد بذلك سقط الوجوب عن القاضي فيما يظهر أيضا . حبست امرأة في دين ولو بإذن زوجها
نعم سيأتي أن الجاني إذا لم يكن له مال ولا ثم بيت مال جاز للقاضي أن يقترض له على بيت المال وأن يسخر من يستوفي القود ، فقياسه أن له حينئذ أن يقترض وأن يسخر باحثين لئلا يتخلد حبسه وقد علم أن الباحث اثنان ولو وجد مال بيد معسر فأقر به لحاضر رشيد وصدقه أخذه منه كما علم مما مر ولا يحلف أنه لم يواطئه فإن كذبه بطل إقراره وأخذه الغرماء أو لغائب أو غير رشيد معين انتظر ما لم يصدقه الولي أو المجهول لم يقبل منه ، ويتفقد الحاكم أيضا حال غير الغريب فلا يعرض عنه لئلا يتخلد حبسه لكن لا يوكل به من يبحث عن .