الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  512 14 - (حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: حفظناه من الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا اشتد الحر، فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم، واشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة ذكروا غير مرة، وسفيان هو ابن عيينة، والزهري محمد بن مسلم بن شهاب.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه القول والحفظ، وفي رواية الإسماعيلي : حدثنا الزهري، ورواية البخاري أبلغ؛ لأن حفظ الحديث عن شيخ فوق مجرد سماعه منه، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع.

                                                                                                                                                                                  (ذكر من أخرجه غيره) أخرجه النسائي في الصلاة أيضا، عن قتيبة، وعن محمد بن عبد الله، كلاهما، عن علي بن المديني.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه وإعرابه). قوله: (اشتكت النار) قيل: إنه موقوف. وقيل: إنه معلق، وهو غير صحيح، بل هو داخل في الإسناد المذكور، والدليل عليه أن في رواية الإسماعيلي قال: واشتكت النار؛ أي: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتكت النار، وشكوى النار إلى ربها يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون بطريق الحقيقة وإليه ذهب عياض .

                                                                                                                                                                                  وقال القرطبي : لا إحالة في حمل اللفظ على الحقيقة؛ لأن المخبر الصادق بأمر جائز لا يحتاج إلى تأويله، فحمله على حقيقته أولى.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي نحو ذلك، ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب.

                                                                                                                                                                                  وقال نحو ذلك الشيخ التوربشتي. (قلت): قدرة الله تعالى أعظم من ذلك؛ لأنه يخلق فيها آلة الكلام، كما خلق لهدهد سليمان ما خلق من العلم والإدراك، كما أخبر الله تعالى عن ذلك في كتابه الكريم وحكى عن النار حيث تقول: هل من مزيد وورد أن الجنة إذا سألها عبد أمنت على دعائه، وكذا النار.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن المنير: حمله على الحقيقة هو المختار؛ لصلاحية القدرة لذلك، ولأن استعارة الكلام للحال، وإن عهدت وسمعت، لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن والقبول والتنفس وقصره على اثنين فقط بعيد من المجاز خارج عما ألف من استعماله.

                                                                                                                                                                                  وقال الداودي : وهو يدل على أن النار تفهم وتعقل، وقد جاء أنه ليس شيء أسمع من الجنة والنار، وقد ورد أن النار تخاطب سيدنا محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتخاطب المؤمن بقولها: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي، والوجه الثاني أن يكون بلسان الحال، كما قال عنترة:


                                                                                                                                                                                  وشكى إلي بعبرة وتحمحم

                                                                                                                                                                                  وقال الآخر:


                                                                                                                                                                                  يشكو إلي جملي طول السرى مهلا رويدا فكلانا مبتلى

                                                                                                                                                                                  ورجع البيضاوي حمله على المجاز، فقال: شكوها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضا مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها. قوله: (بنفسين) تثنية نفس بفتح الفاء، وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء. قوله: (نفس) في الموضعين بالجر على البدل أو البيان، ويجوز فيهما الرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف والتقدير: أحدهما نفس في الشتاء والآخر نفس في الصيف، ويجوز فيهما النصب على تقدير: أعني نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف. قوله: (أشد ما تجدون) بجر أشد على أنه بدل من نفس أو بيان، ويروى بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف؛ أي: هو أشد ما تجدون.

                                                                                                                                                                                  وقال البيضاوي : هو خبر مبتدإ محذوف تقديره: فذلك أشد.

                                                                                                                                                                                  وقال الطيبي : جعل أشد مبتدأ محذوف الخبر أولى، والتقدير: أشد ما تجدون من الحر من ذلك النفس، انتهى. ويؤيد الوجه الأول رواية الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: فهو أشد، ويؤيد الوجه الثاني رواية النسائي من وجه آخر بلفظ: فأشد ما تجدون من الحر من حر جهنم، وفي اللفظ الذي رواه البخاري لف ونشر على غير الترتيب، ولا مانع من حصول الزمهرير من نفس النار؛ لأن المراد من النار محلها، وهو جهنم، وفيها طبقة زمهريرية، ويقال: لا منافاة في الجمع بين الحر والبرد في النار؛ لأن النار عبارة عن جهنم، وقد ورد أن في بعض زواياها نارا، وفي الأخرى الزمهرير، وليس محلا واحدا يستحيل أن يجتمعا فيه. (قلت): الذي خلق الملك من ثلج ونار قادر على جمع الضدين في محل واحد، وأيضا فالنار من أمور الآخرة، وأمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا، وفي التوضيح [ ص: 24 ] قال ابن عباس : خلق الله النار على أربعة، فنار تأكل وتشرب، ونار لا تأكل ولا تشرب، ونار تشرب ولا تأكل، وعكسه فالأولى التي خلقت منها الملائكة، والثانية التي في الحجارة. وقيل: التي رؤيت لموسى عليه السلام ليلة المناجاة، والثالثة التي في البحر. وقيل: التي خلقت منها الشمس، والرابعة نار الدنيا، ونار جهنم تأكل لحومهم وعظامهم ولا تشرب دموعهم ولا دماءهم، بل يسيل ذلك إلى طين الخبال، وأخبر الشارع أن عصارة أهل النار شراب من مات مصرا على شرب الخمر، والذي في الصحيح أن نار الدنيا خلقت من نار جهنم.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن عباس : ضربت بالماء سبعين مرة، ولولا ذلك ما انتفع بها الخلائق، وإنما خلقها الله تعالى؛ لأنها من تمام الأمور الدنيوية، وفيها تذكرة لنار الآخرة وتخويف من عذابها.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه استحباب الإبراد بالظهر عند اشتداد الحر في الصيف، وفيه أن جهنم مخلوقة الآن، خلافا لمن يقول من المعتزلة أنها تخلق يوم القيامة، وفيه أن الشكوى تتصور من جماد ومن حيوان أيضا، كما جاء في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوى الجذع وشكوى الجمل على ما عرف في موضعه، وفيه أن المراد من قوله: (فأبردوا بالصلاة هو صلاة الظهر)، كما ذكرناه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية